20.11.09

BAB 3 MAKALAH MUJAHADAH FI AL-QUR'AN


الباب الثالث : القرآن الكريم ودلالته و تصوراته التربوية
الفصل الأول : القرآن الكرييم واللغة العربية
البحث الأول : القرآن الكريم وإعجازه اللغوي
يعتبر المسلمون أن القرآن هو كتاب الله وأنه أعجوبة بإعجازه وبحد ذاته. ، وإن فيه إعجاز أو معجزات. الإعجاز مشتق من العجز. والعجز: الضعف أو عدم القدرة. والإعجاز مصدره أعجز : وهو بمعنى الفوت والسبق. والمعجزة في اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة. وإعجاز القرآن : يقصد به: إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله. أي نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الآتيان بمثله. وقد تحدى الله المشركين أن يأتوا بمثل القرآن أو أن يأتوا بعشر سور من مثله ، فعجز عن ذلك بلغاء العرب، وأذعنوا لبلاغته وبيانه وشهدوا له بالإعجاز، ومازال التحدي قائما لكل الإنس والجن.
أ- أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
ب- قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.
الإعجاز اللغوي للقرآن هو الإعجاز الرئيسي للقرآن. كل نبي وكل رسول قد أوتي من الكرامات ومن المعجزات ما يشهد له بالنبوة أو بالرسالة، وكانت تلك المعجزات مما تميز فيه أهل عصره.
1ـ فسيدنا موسى عليه السلام جاء في زمن كان السحر قد بلغ فيه شأواً عظيماً، فأعطاه الله تعالى من العلم ما أبطل به سحر السحرة.
2ـ وسيدنا عيسى عليه السلام جاء في زمن كان الطب قد بلغ فيه مبلغاً عظيماً، فأعطاه الله تعالى من العلم ما تفوق به على طب أطباء عصره.
3ـ وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاء في زمن كانت الميزة الرئيسية لأهل الجزيرة العربية فيه هي الفصاحة والبلاغة وحسن البيان. فجاء القرآن يتحدى العرب ـ وهم في هذه القمة من الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ أن يأتوا بقرآن مثله.
لعل ما في كلمة < بسم الله> من أثر في تلطيف نفسية الفرد ، التي تولد من حيث يولد السرور والبهجة . فإذا كان كل القول الذي نقرأه أو نسمعه بدايته ابتسامة في أعماق أنفسنا ، فإننا نرغب في ذلك أكثر ، وتبقى البسمة تتبعه ، وما أدرانا بكل آثار كلمات القرآن الكريم في الأنفس ؛ وما هذه إلا واحدة تشفي الكثير من الأسقام النفسية .في ترديدها بسمة ، تسد مسالك الأحزان والاكتئاب ، فلا تتسول في الشعور. فتزيحها من مكان استولت عليه في فترة ضعف ووهن التفكير ، فيحل في عمق النفس أوامر رسم ملامح البسمات ، فلا تلبث مع الأيام أن ترتسم على الوجه إن شاء الله .
الإعجاز اللغوي في القرآن يجذب اهتمام كل دارس له فإذا أدركنا بعض ما ظهر منه فإن ما خفي منه أكثر وأعمق.قراءته أو سماعه تثير في أنفسنا أحاسيس نشعر بها وأخرى لا نشعر بها مباشرة، فهو يخاطب أيضا أعماق هذه النفس ، تلك التي فطرها الله عليها.
فعلينا أن نتدبر ألفاظه ومعانيه وما يصحبهما من إحساسات على مختلف أشكالها، انطلاقا من تحليل واستقراء كل حرف، والحروف في القرآن آيات ، وفى كل كلمة وآية معجزات... ومن جميع الجوانب العلمية التي يعرفها الإنسان .كل حرف وكل كلمة هي فكرة وكل فكرة تتداعى معها أفكار أخرى ، أولها الأقرب إليها من حيث الألفاظ المكونة للكلمة فيتم التمييز بين الكلمة الملفوظة والكلمات الأقرب إليها لفظا، وبالتالي إحضار الصورة الذهنية التي تعرّفها تلك الكلمة ( وإذا خطرت ببالنا صورة ذهنية آي المعنى أولا , تحضر معها الكلمة التي تعرفها حسب ما تعلمناه سابقا ) . مثلا كلمة حّسّنْ تتداعى معها الكلمات الأقرب لفظا منها حُسْنّ و حسان... وكذلك معنى حسن تتداعى معه الأفكار الأقرب إلى معناه .واقرب الكلمات ومعانيها التي تتداعى عند سماع أو لفظ كلمة بسم هي بسمة ، باسم ، بسمات . إضافة الى باقي الأفكار التي توحيها إلينا تلك الكلمة ؛ وكلها تولد فينا فرحة وما يسر النفس .
لنتدبر لفظ كلمة { بسم } ؛ أول كلمة نبدأ بها تلاوة القرآن الكريم مستقبلة كلمة الله سبحانه وتعالى ثم صفاته ، وندرسها من جانب وقعها في أغوار نفس الإنسان . وما استهلال كل سور القرآن بها إلا لأنها تحمل أسرارا عديدة والتي وردت في الكثير من تفاسير القرآن الكريم . كلمة بسم ، وهو من منابع حلاوة لفظها وتحبيذ قراءة القرآن وسماعه. بسم تُدخل في النفس بسمة خفية خافتة دون أن نشعر بها، فتنشرح لاستقبال اسم الله وما يلي تلك الكلمة من القول أو الفعل، ولذلك أيضا أوصانا الإسلام بأن نستهل بها كلامنا وكل أعمالنا .
إذا تأملنا جيدا ملامح الوجه عندما نتلفظ بكلمة بسم . نلاحظ أن هناك تطابق بين الملامح التي ترتسم على الوجه أثناء لفظ هذه الكلمة، والملامح التي ترسمها البسمة أثناء الابتسامة .لكي نتأكد من ذلك نقوم بمقارنة الملامح التي ترتسم على الوجه عند لفظ حروف كلمة بسم ، بملامح البسمة على الوجه (في زمن يقايس الزمن اللازم للفظ كلمة بسم بهدوء وتأنّى. لفظ الباء بالكسرة (بـِ): الباء من الأحرف الشفهية لأن مخرجها إلى الهواء من الشفتين .ضم الشفتين ثم فتحهما لإصدار صوت الباء يليه تمدد الشفتين عرضا لإظهار صوت الكسرة على الباء، هذه الملامح التي ارتسمت على الوجه تشبه تماما الملامح التي تبدأ بها البسمة .
لفظ السين ساكنا (ـسـْ) : من الأحرف الأصلية ومخرجها ما بين رأس اللسان وبين صفحتي الثنيتين عند التقاء الأسنان .
ضم الأسنان والشفتين مفتوحتين مع جريان الهواء ، هي أيضا من مكونات سمات البسمة عندما ترتسم على الوجه ، وخاصة ميزة ظهور الأسنان أثناء لفظها بعلامة السكون أكثر مما تكون عليه عند لفظها بالعلامات الأخرى ، وهي من المميزات الكبرى لملامح البسمة. لفظ الميم بالكسرة (ـِم ) : كما في لفظ حرف الباء بالكسرة إضافة إلى الغنّة لخروج صوت الحرف من الخيشوم المميزة له متمما لجريان الهواء الذي حدث أثناء لفظ حرف السين ساكنا ؛ وهذا كله نجده واضحا في الابتسامة مما يبرز تطابق الملامح أكثر ، التي يرسمها لفظ كلمة بسم على الوجه بالملامح التي ترسمها البسمة . إلى هذا كله نجد أن صفات حروف كلمة بسم تشترك في ميزتين هامتين جدا وضروريتين ، لدلالتهما على حالة اللسان الحركية أثناء لفظ حروف الكلمة وهما : الاستفال والاستفتاح .الاستفال : وهو تسفل اللسان أثناء النطق بالحرف وخروج صوت الحرف من أسفل الفم , والاستفال ضد الاستعلاء الذي يكون فيه اللسان عند الحنك .الاستفتاح : وهو جريان النفس لانفراج ظهر اللسان عند النطق بالحرف وعدم إطباقه على الحنك الأعلى .هاتين الصفتين توضحان دور اللسان أثناء لفظ هذه الحروف ومنهما نجد أن دور اللسان لا يكاد يذكر تماما كم في حالة البسمة .أما الصفات الأخرى المميزة لها تخص الصوت الذي نسمعه ولا تزيد أو تنقص من الملامح التي ترتسم على الوجه عند لفظ كلمة بسم. فإذا كانت الملامح التي ترتسم على الوجه أثناء لفظ كلمة بسم ، متطابقة مع تلك التي ترسمها البسمة ؛ ونعلم أيضا أن لفظ كلمة ما هو إلا حركات لعضلات الوجه واللسان والجهاز التنفسي ، وكذلك الابتسامة ما هي إلا حركات لعضلات الوجه والجهاز التنفسي واللسان المحدودة كما في مخارج وصفات حروف كلمة بسم .
فالأوامر التي تصدر من العقل لتعطي حركات ترتسم على الوجه أثناء اللفظ ، والأوامر التي تعطي حركات لرسم البسمة على الوجه : هي متطابقة إلى حدّ كبير ؛ وفى كلتا الحالتين هناك حالة نفسية تصحب الأمر الذي صدر؛ أي صورة ذهنية معبرة عنها ، وهي نفس الصورة الذهنية التي نكون عليها نفسيا أيضا، في حالة سماعنا لذلك اللفظ ، وإلا لما حدث إدراك اللفظ الذي نسمعه .
بـما أن الأوامر هي نفسها، فمعناه أن لفظ بسم أو سماعه ، يثير في أعماق أنفسنا نفس الإحساس والصورة الذهنية الذي تثيره أيضا البسمة في أعماقنا؛ ونحن لا نشعر بها تماما (إضافة إلى معناه المتعارف عليه) . أما إذا استشعرنا ذلك فإننا نشعر بالنواة المولدة للبسمة في أعماقنا ، وهو من بين ذلك السر الذي يمنح اللفظ حلاوة . إنه حقّا خطاب للنفس من عند الذي سواها ، حتى في نفوس من لا يفقه اللغة العربية فهي تثير في أعماقهم الخفية إحساس بالبسمة وهم لا يشعرون بها كلية.
البحث الثاني : نزول القرآن باللغة العربية
فإن حديثنا عن القرآن الكريم وأثره في اللغة العربية، حديث الشيء عن ذاته، فالقرآن الكريم عربي المبنى فصيح المعنى، وقد اختار الله تعالى لكتابه أفصح اللغات فقال تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) وقال تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين( [الشعراء: 195]، وقال تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون( [الزمر: 28].‏ ومن الراجح أن اللغة العربية هي أقدم اللغات على الإطلاق، كما بينت الدراسات الحديثة وأنها اللغة التي علّم الله بها آدم الأسماء كلها، وهي لغة أهل الجنة كما ورد في الحديث: "أَحِبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي".‏ فيمكن رد هذه الشبهة بعدة وجوه:
الوجه الأول: أنه لو كانت هذه الشبهة حقاً للزم منها عدم صحة نسبة الإنجيل إلى الله حيث إنه كتب بلغة لا يفهمها أكثر البشر وهي اللغة الآرامية، وهم يزعمون أن المسيح قد أرسل إلى جميع الأمم.
الوجه الثاني: أن القرآن نزل باللغة العربية لما للغة العربية من خصائص ومميزات لا توجد في لغة أخرى، فاللغة العربية من أغنى اللغات كلماً، وأعذبها منطقاً، وأسلسها أسلوباً، وأغزرها مادة، ولها من عوامل النمو ودواعي البقاء والرقي ما قلما يتهيأ لغيرها، وذلك لما فيها من اختلاف طرق الوضع والدلالة، وغلبة اطراد التصريف والاشتقاق، وتنوع المجاز والكناية وتعدد المترادفات، إلى النحت والقلب والإبدال والتعريب، ولقد شهد بعظمتها كثير من المنصفين الأجانب مثل (إرنست رينان) في كتاب (تاريخ اللغات السامية) حيث يقول: من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة القوية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري، عند أمة من الرحل تلك اللغة التي فاقت إخوتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أن علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة.
الوجه الثالث: أن القرآن نزل باللغة العربية لأن العربية هي وسيلة التفاهم مع القوم الذين أرسل إليهم الرسول، وبدأت الدعوة في محيطهم قبل أن تبلغ لغيرهم، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.
الوجه الرابع: أن القرآن نزل باللغة العربية لإثبات إعجاز القرآن، لإثبات صدق الرسالة، فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء بلغاء يتبارى فصحاؤهم في نثر الكلام ونظمه في مجامعهم وأسواقهم، فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، آية قاطعة وحجة باهرة على نبوته، وقال لهم إن ارتبتم في أن هذا القرآن من عند الله فأتوا بمثله، فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، فتنزل معهم فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ولم يكن شيء أحب إليهم من أن يثبتوا كذب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وجدوا أي طريق يستطيعون ذلك من خلاله لسلكوه لشدة عداوتهم له وبغضهم لما جاء به، ولكنهم عجزوا، فدل ذلك أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وأما كيفية تبليغه للناس وهم لا يفهمون العربية، فهذا التبليغ بترجمة معانيه لهم، وبتعلمهم هم العربية، وهذا ما حدث في القرون الأولى، عرضت الدعوة على الناس كافة فآمن الكثير منهم، وتفقهوا في الدين وأتقنوا اللغة العربية، ففهموا القرآن وصاروا أئمة في الدين والفقه واللغة.
الفصل الثانى : دلالة الألفاظ القرآنية
البحث الأول : المشترك اللفظي فى القرآن
اهتم القدماء من علماء العربية بهذه الظاهرة و كانت هناك مؤلفات عديدة لمعالجتها سواء فيما يتعلق بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف أو اللغة العربية بشكل عام.ووصل إلينا عدد من العناوين مثل (الأشباه و النظائر) ،أو (الوجوه و النظائر) ،أو عنوان (ما اتفق لفظه و اختلف معناه من القرآن المجيد) للمبرد. و ربما كان من أشهر المؤلفات القديمة في هذا الموضوع هو الذي وضعه كراع (علي بن حسن الهنائي ت310ه) الذي عنوانه (المنجد في اللغة). و بشكل عام كان تعريف المشترك هو (ما اتفق لفظه و اختلف معناه) أو بعبارة أخرى (اتحاد الصورة و اختلاف المعنى)، و قد ذكر سيبويه في (الكتاب) ذلك فقال " اعلم أن من كلامهم اتفاق اللفظين و اختلاف المعنيين) (ينظر الكتاب ج/1 ص 7).
و قد كان هناك من القدماء من ضيّق مفهوم المشترك حتى كاد أن ينكر وقوعه مثل (ابن درستويه)، و هناك من أكد وجوده و ربما بالغ في ذلك مثل ابن فارس و ابن خالويه و هناك منهم من اعتدل فلم ينكر و لم يبالغ بل أقرّ بأن هناك بعض المشترك اللفظي في اللغة، إذ أن ذلك لا ينافي المنطق بل أنه قد يكون سنة لغوية إن لم يكن ضرورة ،و لا يقتصر وجوده على العربية بل هو في كل اللغات، و الشواهد على ذلك كثيرة. و فيما يروى من الشواهد في ذلك قول الشاعر:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى # إذا رحل الجيران عند الغروب
اتبعتهم طرفي وقد أزمعوا # و دمع عيني كفيض الغروب
كانوا و فيهم طفلة حرة # تفتر عن مثل أقاصي الغروب
فالغروب الأولى غروب الشمس، و الغروب الثانية جمع غرب، و هو الدلو الكبيرة المملوءة و الثالثة جمع غرب و هي الو هاد المنخفضة. و قد عزا اللغويين وقوع المشترك إلى عدد من الأسباب من أهمها:
1. تداخل اللهجات.
2. التطور الصوتي لبعض الكلمات حتى تتطابق لفظتان في لفظة تدل على المعنيين لكل منهما أو يحدث فيهما أو في أحدهما قلب مكاني .
3. التطور المعنوي أي تغيير المعنى عن طريق المشابهة و الاستعارة و المجاز. من ذلك توسيع المعنى، أو تضييقه أو السببية فكلمة (الإثم) كان معناها الذنب، ثم أصبحت تطلق على الخمر لأنها سبب في الإثم.
أما المحدثون فقد بلوروا أنواع المشترك بما يلي:
1. معنى مركزي للفظ تدور في فلكه عدة معان فرعية.
2. تعدد المعنى نتيجة استعمال اللفظ في مواقف مختلفة.
3. دلالة الكلمة الواحدة على أكثر من معنى بسبب تطور المعنى.
4. وجود كلمتين تدل كل واحدة منهما على معنى ثم اتحاد صورتي الكلمتين في كلمة واحدة.
و ربما يتقارب النوعان الأول و الثاني، و نمثل لهما بكلمة (عنق) فالمعنى المركزي هو (الرقبة) ومن المعاني الهامشية عنق الزجاجة و عنق الوادي. أما النوع الثالث فقد سماه اللغويون (البوليزيمي) أو(كلمة واحدة ـ معنى متعدد) فكلمة (عملية) لا يفهم لها معنى محدد منعزلة عن السياق و يحدد لها معنى من المعاني حسب السياق أو الحقل فتكون عملية جراحية أو عسكرية أو اقتصادية. أما النوع الرابع و يسمى (الهومونيمي) فيمكن أن يمثل له بكلمة (قال) الفعل الماضي الذي يدل على معنى القول، أو الإقالة و يحدد ذلك صيغة المضارع، قال يقول أو قال يقيل . و قد يصعب الفصل أحيانا، في التفريق فيما إذا كان لدينا معنى مركزي تدور حوله معان أخرى، أو أن لدينا عدد من المعاني لكلمة واحدة مثال كلمة(يد) التي ترد في عدد من الاستعمالات:
- كسرت يد فلان
- يد الفأس.
- يد الطائر (جناحه)
- طويل اليد (سمح جواد أو سارق).
- يد الرجل (قومه أو أنصاره)
هناك نوعان من المجاز، أو لهما المجاز الحي الذي نشعر به و نلاحظه كقولنا أسد عن الرجل الشجاع و المجاز الميت أو الذي تنوسيت علاقته و انتقاله من الحقيقة فأصبح كأنه حقيقة مثل الكتابة لمعنى النسخ و أصل معناها الجمع، إذ هي جمع للحروف و الكلمات. نماذج من المشترك اللفظي من كتب بعض اللغويين القدماء (ينظر أحمد مختار عمر ص153)
عن كراع: العين: مطر يدوم خمسة أيام لا يقلع.
عين كل شيء: خياره
و عين القوم : ربيئتهم الناظر لهم
و عين الرجل: شاهده
و العين: عين الشمس.
عن أبي عبيدة: العين: الذهب
العين: عين الماء
العين: نفس الشيء
العين: النقد
العين: التي يبصر بها
عن أبي العميثل:
العين: النقد من دنانير و دراهم
العين: عين البئر و هو مخرج مائها
و العين: ما عن يمين القبلة
و العين: عين الميزان.
و أخيرا هناك من يرى أن المشترك كظاهرة هو مزية ايجابية في اللغة فهو:
1. يعد من خواص الأسلوب و يساعد الأدباء و الشعراء في فنهم.
2. أنه يخفف من حفظ الكلمات الكثيرة لجميع المعاني إذ يعبر بكلمة واحدة عن أكثر من معنى. و لكن ذلك ينقضه وجود الترادف. من المشترك اللفظي في القرآن هي :
أ) كلمة (أثر) وتتجه المادة إلى ستة معانٍ:
1ـ أثر الحديث والعلم يأثره من بابي ضرب ونصر نقله، وأصله تتبع الأثر، ومنه قوله تعالى ﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ ، أي يُروى ويُنقل.
2ـ الأثارة بفتح الهمزة البقية من العلم تؤثر، ومنه ﴿ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
3ـ وأثر الشيء ما يدل على وجوده، ومنه ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾
4ـ والأثر ما تتركه قدم السائر على الأرض ومنه ﴿ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ﴾ ، أي في عقبي كأنهم يطئون أثره.
5ـ وآثره اختاره وفضله ومصدره إيثار، ومنه ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ ، وأشباهه في الأعلى والنازعات وطه والحشر.
6 ـ وأثار الأرض قلبها للزراعة، ومنه ﴿ وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ ، أي قلبوها للزراعة.
ب) كلمة خلف:وقد بلغت صورها ست عشرة صورة:
1-خَلْف بفتح الخاء وسكون اللام ومعناها وراء « ظرف مكان »، ضد قدام، وشاهده ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ، أي فَرِّق عن معاداتك من ورائهم من الكفرة.
2- وبالوزن السابق أيضًا الجيل من الناس بعد الجيل، وشاهده ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾
3 وبالوزن عينه ومعناها من جاء بعدك، ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً ﴾

تنبيه: يُستثنى من الكلية السابقة قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ ، فالمراد بها من أمامه ومن ورائه، ومثلها ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾
5- قوله تعالى ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ ، ومعناها تخلف الحكم في شأنهم حتى ينزل فيهم قرآن، وقد نزل القرآن فعلا بالتوبة عليهم، وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية الواقفي، أقول وقصة كعب مشهورة في كتب الحديث، وفيها تأثير وجاذبية معًا.
6- كل ما جاء من هذه المادة على أفعل إفعالا أخلف إخلافًا، فمعناه خلف الوعد ونقض العهد، ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾
7- وردت المفاعلة من هذه المادة في القرآن الكريم مرتين: مرة متعدية بحرف إلى، وذلك بعد تعديها إلى صريح المفعول به، ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ ، والمعنى ما كنت لأنهاكم عن شيءٍ وأتجه إلى فعله كمالا أترك ما أمرتكم به، وأخرى تعدت بعن ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ، أورد القرطبي ما نصه ( قال قتادة: أو معنى يخالفون عن أمره أي يعرضون عن أمره، وقال أبو عبيدة والأخفش: عن في هذا الموضع زائدة وقال الخليل وسيبيويه ليست بزائدة والمعنى يخالفون بعد أمره.
8- قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ ، قال الزمخشري أي يخلف أحدهما الآخر.
9- جمعت كلمة خليفة في القرآن على صورتين، الأولى فعائل ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾ ، والثانية فُعلاء ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ ﴾ ، فما سر الاختلاف؟ الجواب أجُمِعَتْ على فعائل باعتبار لفظها، وقد لحقته تاء المبالغة فصار مثل وسيلة ووسائل وكريمة وكرائم، وجمعت على فُعَلاء باعتبار أصلها "بغير تاء" ككريم وكرماء ونبيل ونبلاء وخليف فعيل بمعنى فاعل.
10- قوله تعالى: ﴿ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ ، أي مع من تخلف من المنافقين.
11- قوله تعالى ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ ، جمع خالفة، أي مع النساء والصبيان وأصحاب الأعذار من الرجال.
12- قوله تعالى ﴿ وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ ، أي لا يمكثون بعدك إلى قليلا ثم يهلكهم الله.
13-قوله تعالى ﴿ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ﴾ ، وهو ضد الوفاق، أي تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى.
14- قوله تعالى ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ ، والمخلفون هم الذي تخلفوا عن غزوة تبوك.
15-قوله تعالى ﴿ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ ، أي مخالفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهو مصدر كالجدال، ويُعرب مفعولا لأجله.
16- قوله تعالى ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ ﴾ ، والمخلفون هنا الذين تخلفوا عن نصرة رسول الله حين دعاهم إليها.
البحث الثاني : الترادف فى القرآن
إن كثيرا مما قيل عن المشترك يقال عن الترادف و لكن في وضع معكوس بالنسبة للمفهوم. فالترادف لغة هو التتابع ، وهو مصدر ترادف الذي يدل على الحدث دون الدلالة على الزمان وهذا المصدر مادته ردف الذي يدخل ضمن دلالتها الدلالة على التبعية و الخلافة ومن ذلك الردف الراكب خلف الراكب التابع . (ينظر : فريد عوض حيدر ، كتاب علم الدلالة دراسة نظرية وتطبيقية ، كلية دار العلوم جامعة القاهرة ، فرع الفيوم )
- رَدَفَه ورَدف له رَدْفًا تبعه وركب خلفه وصار له .
- وكل ما تبع شيئا فهو ردْفُه .
- ترادفت الكلمات تشابهت في المعنى .
وأما اصطلاحا فالمترادف هو ما اختلف لفظه واتفق معناه أو هو إطلاق عدة كلمات على مدلول واحد كالأسد و السبع و الليث التي تعني مسمى واحدا ، وهو أيضا كما عرفه الإمام الرازي : الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. على أية حال فالترادف هو من مجالات دراسة المعنى، إذ أن لفظين أو عدد من الألفاظ تحمل دلالة واحدة أو تدل على معنى واحد أو متقارب بوجود بعض الفروق كما سيتبين .
موقف الباحثين من ظاهرة الترادف في العربية .
لقد ظهر الخلاف بين القدامى كما ظهر بين المحدثين العرب و الغربيين حول ظاهرة الترادف بين معترف بوجودها ومنكر لذلك. ولقد تعرض كثير من الدارسين لهذه الظاهرة من وجهة نظر القدامى ولكن قل منهم من تناولها من وجهة النظر اللغوية الحديثة، ورأينا أن نتعرض أولا إلى موقف القدامى من هذه الظاهرة ثم نتعرض بعدها لموقف المحدثين منها.
موقف القدامى من الترادف.
اختلف اللغويون العرب القدامى اختلاف واسعا في إثبات هذه الظاهرة أو إنكار وجودها في اللغة العربية حيث كانت هذه الظاهرة إحدى القضايا التي تناولها الباحثون و اللغويون القدامى.
الفريق الأول. يثبت الترادف ويغالي في إثباته ويتوسع فيه ومن هؤلاء ابن خالويه ( ت 370 هـ ) ويظهر رأيه من خلال تلك الرواية التي تذكر الخلاف الذي وقع بينه وبين أبي علي الفارسي حول أسماء السيف. وتعد هذه الرواية من أشهر الروايات حول الخلاف في ظاهرة الترادف في العربية ، حيث يروى أن أبا علي الفارسي قال " كنت بمجلس سيف الدولة بحلب وبحضرة جماعة من أهل اللغة ومنهم ابن خالويه فقال ابن خالويه أحفظ للسيف خمسين اسما فتبسم أبو علي الفارسي وقال : ما أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف . قال ابن خالويه : فأين المهند و الصارم وكذا وكذا ، فقال أبو علي هذه صفات.
- تدل هذه الحادثة على أن ابن خالويه يثبت ظاهرة الترادف وأبو علي الفارسي ينكرها.
- ولقد ألف ابن خالويه كتابين في الترادف أحدهما في أسماء الأسد و الثاني في أسماء الحية.
ومن الذين أثبتوا الترادف أيضا مجد الدين الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط الذي ألف كتابا في الترادف[ أسماه الروض المسلوف فيما له أسمان إلى ألوف ] . ومن هذا الفريق أيضا ابن جني حيث عبر عن ذلك في باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض واستدل على ذلك بوقوع الترادف فقال " وجدت في اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به " وفيه موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظتان بمعنى واحد من تكلف لذلك أن يوجد فرقا بين قعد وجلس وبين ذراع وساعد .
الفريق الثاني . وهو الذي ينكر الترادف ويرفضه رفضا تاما ومن هؤلاء أبو علي الفارسي وذلك لما كان بمجلس سيف الدولة وكان بحضرة المجلس ابن خالويه عندما رد عليه كما ذكر آنفا وكذلك كان أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي وأبو العباس أحمد بن يحي ثعلب وأبو محمد عبد الله بن جعفر درستويه . قال ابن درستويه : كذلك ذهب ابن فارس مذهب معلمه ثعلب فأنكر وقوع الترادف قائلا : " ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو السيف و المهند و الحسام و الذي نقوله في هذا أن الاسم واحد هو السيف وما بعده من الألقاب صفات
ومن المنكرين أيضا للترادف أبو هلال العسكري ( توفى سنة 395 هـ ) حيث قال : " فأما في لغة واحدة فمحال أن يختلف اللفظ و المعنى واحد، كما ظن كثير من النحويين و اللغويين ، وهو يقول أيضا : " الشاهد على أن اختلاف العبارات و الأسماء يوجب اختلاف المعاني أن الاسم كلمة تدل على المعنى دلالة الإشارة، وإذا أشير إلى الشيء مرة واحدة فإن معرفة الإشارة إليه ثانية وثالثة غير مفيدة ويؤيد ذلك ثعلب الذي يرى أن ما يظن من المترادفات هو من المتباينات ،كما يرى ابن فارس أن كل صفة من الصفات لها معنى خاص فالأفعال ( مضى ، ذهب ، انطلق ، ليست بمعنى واحد " .
ورغم أن أبا هلال العسكري كان من هذا الفريق الرافض للترادف المبالغ في رفضه في كتابه الفروق غير أنه في كتابين آخرين له نسي هذا المبدأ الألفاظ المترادفة بلا اعتراض عليها أو محاولة التفريق بينها. ويبدو أن كلا من الفريقين أسرف فيما ذهب إليه فالأول أسرف في إثبات الظاهرة و الثاني أسرف في البحث عن الفروق الدلالية بين الألفاظ .
أما الباحثون المحدثون فيمكن إيجاز موقفهم فيما يلي :
أولا : المثبتون للترادف من العرب المحدثين. يجمع المحدثون من علماء اللغات على إمكان وقوع الترادف في أي لغة من لغات البشر بل إن الواقع المشاهد أن كل لغة تشمل على بعض تلك الكلمات المترادفة، ولكنهم يشترطون شروطا معينة لابد من تحققها حتى يمكن أن يقال أن بين الكلمتين ترادفا وهذه الشروط هي :
1 - الاتفاق في المعنى بين الكلمتين اتفاقا تاما على الأقل في ذهن الكثرة الغالبة لأفراد البيئة الواحدة … فإذا تبين لنا بدليل قوي أن العربي كان حقا يفهم من الكلمة جلس شيئا لا يستفيده من كلمة قعد قلنا حينئذ ليس بينهما ترادف .
2 - الاتحاد في البيئة اللغوية أي أن تكون الكلمتان تنتميان إلى لهجة واحدة ومجموعة منسجمة من اللهجات وبذلك يجب ألا نلتمس الترادف من لهجات العرب المتباينة فالترادف بمعناه الدقيق هو أن يكون للرجل الواحد في البيئة الواحدة الحرية في استعمال كلمتين أو أكثر في معنى واحد يختار هذه حينا ويختار تلك حينا آخر وفي كلتا الحالتين لا يكاد يشعر بفرق بينهما إلا بمقدار ما يسمح به مجال القول (ينظر إبراهيم أنيس في اللهجات العربية ص177)ولم يتفطن المغالون في الترادف إلى مثل هذا الشرط بل اعتبروا كل اللهجات وحدة متماسكة وعدوا كل الجزيرة العربية بيئة واحدة. ولكنا نعتبر اللغة النموذجية الأدبية بيئة واحدة ونعتبر كل لهجة أو مجموعة منسجمة من اللهجات بيئة واحدة .
3 - الاتحاد في العصر فالمحدثون حين ينظرون إلى المترادفات ينظرون إليها في عهد خاص وزمن معين وهي تلك النظرة التي يعبرون عنها بالنظرة الوصفية لا تلك النظرة التاريخية التي تتبع الكلمات المستعملة في عصور مختلفة ثم تتخذ منها مترادفات . فإذا طبقت هذه الشروط على اللغة العربية اتضح لنا أن الترادف لا يكاد يوجد في اللهجات العربية القديمة، إنما يمكن أن يلتمس في اللغة النموذجية الأدبية .
أما المنكرون للترادف من المحدثين العرب فمنهم الدكتور السيد خليل و الدكتور محمود فهمي حجازي وله رأي معتدل حيث يقول : يندر أن تكون هناك كلمات تتفق في ظلال معانيها اتفاقا كاملا ومن الممكن أن تتقارب الدلالات لا أكثر ولا أقل. وأما المحدثون الغربيون فقد عرّفوا الترادف بأنه الحالة التي يكون فيها لصيغتين أو أكثر المعنى نفسه ، ومن أول المنكرين للترادف من الغربيين أرسطو " ويبدو ذلك من النص الذي نقله الدكتور إبراهيم سلامة من كتاب الخطابة لأرسطو حيث يقول : وكذلك الكلمة يمكن مقارنتها بالكلمة الأخرى ويختلف معنى كل منهما . ومن الذين أنكروا وجود الترادف من علماء اللغة الغربيين المحدثين " بلومفيلد " حيث يقول ليس هناك ترادف حقيقي .
وبعد النظر في هذه المواقف و الآراء المختلفة لدى الباحثين القدامى و المحدثين العرب و الغربيين نرى أنه من التعسف الشديد إنكار وجود الترادف في العربية وإيجاد معنى لكل اسم من أسماء الأسد أو السيف ، وغيرها مختلف عن غيره في بعض الصفات أو التفاصيل .فالترادف ظاهرة لغوية طبيعية في كل لغة نشأت من عدة لهجات متباينة في المفردات و الدلالة ،وليس من الطبيعي أن تسمي كل القبائل العربية الشيء الواحد باسم واحد وعليه نرى أن الترادف واقع في اللغة العربية الفصحى التي كانت مشتركة بين قبائل العرب في الجاهلية وكان من الطبيعي أن نقع على بعض الكلمات في القرآن الكريم لنزوله بهذه اللغة المشتركة (ينظر اميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية و خصائصها ص 175)
ولا بأس أن نذكر أو نذكّر أخيرا بأن هناك رأيا ظل سائدا قديما وحديثا وهو أن لا ترادف في العربية وأن هناك فروقا بين المعاني للألفاظ التي تبدو مترادفة ذكرها العلماء في مؤلفاتهم وأوردوا لها أمثلة ،من ذلك ما جاء في كتاب فقه اللغة للثعالبي (ارجع إلى هذا الكتاب) فهو يرى أن هزال الرجل على مراحل ، فالرجل هزيل ثم أعجف ثم ضامر ثم ناحل . و قد يدل على درجات الحالات النفسية المتفاوتة ، فالهلع أشد من الفزع ، و البث أشد من الحزن ، و النصب أشد من التعب و الحسرة أشد من الندامة . كما أورد أبو هلال العسكري في كتابه الفروق في اللغة ( ارجع إلى هذا الكتاب) أمثلة كثيرة ومتنوعة لهذه الفروق نذكر منها قوله :
- الفرق بين الصفة و النعت: أن النعت لما يتغير من الصفات، و الصفة لما يتغير ولا يتغير.
- و الفرق بين اللذة و الشهوة: أن الشهوة توقان النفس إلى ما يلذ، و اللذة ما تاقت إليه النفس .
- الفرق بين الغضب و الغيظ و السخط و الاشتياط: أن الغضب يكون على الآخرين وليس على النفس ، و الغيظ يكون من النفس ، و السخط هو الغضب من الكبير على الصغير وليس العكس ، أما الاشتياط: فهو تلك الخفة التي تلحق الإنسان عند الغضب .
- الفرق بين القد و القط: أن القد الشق طولا و القط هو الشق عرضا
- الفرق بين البخل و الشح: أن الشح هو بإضافة الحرص على البخل أي البخيل يبخل على الآخرين أما الشحيح فهو يبخل على الآخرين وعلى نفسه .
- الفرق بين السرعة و العجلة: أن السرعة التقدم فيما ينبغي وهي محمودة، ونقيضها الإبطاء وهو مذموم . و العجلة: التقدم فيما لا ينبغي ونقيضها الأناة، و الأناة محمودة ( في التأني السلامة و في العجلة الندامة )
- الفرق بين الفوز و النجاة: أن النجاة هي الخلاص من المكروه، و الفوز هو الخلاص من المكروه و الوصول إلى المحبوب.
و يمكن تلخيص أهم أسباب الترادف حسب رأي الباحثين بما يلي (و هذا يخص اللغة العربية دون غيرها)
1 - انتقال كثير من مفردات اللهجات العربية إلى لهجة قريش بفعل طول الاحتكاك بينهما وكان بين هذه المفردات كثير من الألفاظ التي لم تكن قريش بحاجة إليها لوجود نظائرها في لغتها مما أدى إلى نشوء الترادف في الأوصاف و الأسماء و الصيغ .
2 - أخذ واضعي المعجمات عن لهجات قبائل متعددة كانت مختلفة في بعض مظاهر المفردات، فكان من جراء ذلك أن اشتملت المعجمات على مفردات غير مستخدمة في لغة قريش ويوجد لمعظمها مترادفات في متن هذه اللغة .
3 - تدوين واضعي المعجمات كلمات كثيرة كانت مهجورة في الاستعمال ومستبدلاتها ( مفردات أخرى).
4 - عدم تمييز واضعي المعجمات بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي فكثير من المترادفات لم توضع في الأصل لمعانيها بل كانت تستخدم في هذه المعاني استخداما مجازيا (ينظر اميل بديع يعقوب، فقه اللغة العربية و خصائصها ص 177) .
5 - انتقال كثير من نعوت المسمى الواحد من معنى النعت إلى معنى الاسم الذي تصفه فالمهند و الحسام و اليماني من أسماء السيف يدل كل منها على وصف خاص للسيف مغاير لما يدل عليه الآخر .
6 - إن كثيرا من المترادفات ليس في الحقيقة كذلك، بل يدل كل منها على حالة خاصة من المدلول تختلف بعض الاختلاف عن الحالة التي يدل عليها غيره، فقد يعبر كل منها عن حالة خاصة للنظر تختلف عن الحالات التي تدل عليها الألفاظ الأخرى ف(رمق ) يدل على النظر بمجامع العين و" لحظ " على النظر من جانب الأذن و " حَدَجه " معناه رماه ببصره مع حدة و" شفن " يدل على نظر المتعجب الكاره و " رنا " يفيد إدامة النظر في سكون و هكذا.
7 - انتقال كثير من الألفاظ السامية و المولدة و الموضوعة و المشكوك في عربيتها إلى العربية وكان لكثير من هذه الألفاظ نظائر في متن العربية .
8 - كثرة التصحيف في الكتب العربية القديمة وبخاصة عند ما كان الخط العربي مجردا من الإعجام و الشكل .
9 - تعدد الواضع أو توسع دائرة التعبير وتكثير وسائله، وهو المسمى عند أهل البيان بالافتنان أو تسهيل مجال النظم و النثر وأنواع البديع، فإنه قد يصلح أحد اللفظين المترادفين للقافية أو الوزن أو السجع دون الآخر وقد يحصل التحسين و التقابل و المطابقة ونحو ذلك بهذا دون الآخر .
10 - استخدام دلالات متعددة للمدلول الواحد على سبيل المجاز.
11 - أصل الحدث أي الفعل الذي يقع في محدث ما يقع من غيره. فيرمز الأول باسم غير الثاني فالهمس .مثلا من الإنسان، و الهيس أيضا صوت أخفاف الإبل. و الهسهسة عام في كل شيء. وقد يكون الحدث واحدا في الحالات المختلفة ،فالخرير صوت الماء الجاري أما إذا كان تحت ورق فهو قسيب، فإذا دخل في مضيق فهو فقيق ،فإذا تردد في جرة فهو بقبقة.
الترادف يعني اشتراك لفظين أو أكثر في حمل معنى واحد باعتبار واحد أي أن يكونا من نوع واحد اسمين أو صفتين ليسا متغايرين، ولكن الترادف ليس مما يتفق العلماء على الإقرار به في لغتنا العربية الجميلة، فبعض العلماء من المتقدمين والمحدثين أقر به واعتبر تلك الألفاظ مؤدية لمعنى واحد كالأصمعي والفيروزأبادي صاحب القاموس المحيط. ومنهم من لا يرى ذلك كأبي منصور الثعالبي صاحب كتاب (فقه اللغة وأسرار العربية) وكأبي هلال العسكري الذي ترجم إنكار الترادف عمليا بتصنيف كتاب (الفروق في اللغة) ليؤكد من خلاله أن هذ الألفاظ ليست مترادفة، فهذا الفريق يؤمن بهذه الفكرة ويرى أن الأالفاظ التي يظن أنها مترادفة ليست كذلك حقيقة ، لكنها متقاربة، وهي تحمل فروقا دقيقة بينها لم تكن تخفى على أصحاب اللغة الذين كانت اللغة عندهم حسا وذوقا وفطرة ، والفصل في ذلك كله ينبغي أن يكون للقرآن الكريم ، فهو (كتاب العربية الأكبر) ، وهو الذي جاء في ذروة البلاغة العليا ، وهو الحاكم على اللغة المخصص للاستعمال، لم ينكره العرب أو يستنكروا شيئا منه، بل هو قد ارتقى بلغتهم وصار المهيمن عليها والحكم بينهم، ومن التأمل في مواطن ورود بعض الكلمات التي يقال بترادفها في القرآن الكريم نلحظ أن هناك فروقا بين تلك الكلمات ن وأنه لا يجوز أن تأخذ إحداها مكان الأخرى وإلا لضعف المعنى، سنتعرف الآن على بعض الأمثلة القرآنية لنرى تفريق القرآن في الاستعمال بين الألفاظ المتقاربة المعنى.
1- الرؤيا والحلم: يستعمل القرآن الكريم كلمة الرؤيا لما يكون حقا وصدقا.
يتجلى لنا ذلك بوضوح تام في رؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده في سورة الصافات، وفي رؤيا يوسف التي تحققت بسجود والديه وإخوته له، وفي رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سورتي الإسراء والفتح كقوله تعالى: "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" ـ ، وفي رؤيا الملك في سورة يوسف إذ قال" إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ . قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ"
ونلاحظ من الآية الأخيرة بوضوح تام أن الملأ ردوا عليه بأنها (أحلام) ، وأنهم لا يعرفون تأويل الأحلام مما يقطع بأن الحلم يقصد به الهواجس المختلطة والصور المشوشة التي لا تصدق وقد ظنوا أن رؤيا الملك كذلك ، أما هو نفسه فقد عبر عنها بالرؤيا لأنها كانت واضحة جلية له، ولأن الله تعالى يعلم صدق وقوعها فاختار لها هذا اللفظ.
2- الخشية والخوف: فالخشية هي ما كان عن يقين صادق بعظمة من نخشاه وإن كنا أقوياء في عالمنا، أما الخوف قد يكون عن تسلط بالقهر والإرهاب، وقد يكون ناجما عن ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا، وعلى هذا فالخشية أعلى مرتبة من الخوف لأنها ثمرة اليقين وصدق الانفعال الناجم عن ذروة الإجلال، والخشية في القرآن تكون من الله، وقد تقترن بالأمور العظيمة كالغيب والساعة واليوم الآخر، و(خشية الله منزلة رفيعا يختص بإدراكها فئة معينة من الناس هم العلماء وأولو العقول والألباب من المؤمنين والمتبعين للذكر ومن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
3- المطر والغيث: ويفرق القرآن الكريم في الاستعمال أيضا بين المطر والغيث ، فنرى المطر في مواطن العذاب ولانتقام كقوله تعالى في سورتي الشعراء والنمل: "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ" ، وقوله عز وجل في الأعراف: " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ" ، أما الغيث فيغلب وروده في مواطن الرحمة والخير المقترن بالبشرى والخصب والنماء، قال سبحانه: " وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" . ويمتد الفرق بين الألفاظ إلى استعمال الجمع والمفرد منها، فلكل موضع يناسب المقام الذي يذكر فيه، فحين تُفرَد الرياح بالذكر فإنها تحمل العذاب كقوله تعالى في سورة القمر: "إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ" ، وفي سورة الإسراء "أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً" أما إن جاءت الرياح بالجمع فإنها تدل على الرحمة والبركة ، أو مبشرة بنعمة تأتي من بعد كالغيث والإخصاب ، قال عز وجل: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِين" ، وقال أيضا: "وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَته" .
4- الريب والشك: دأب المفسرون على تعريف أحدهما بالآخر، والحقيقة أن بينهما تقاربا في المعنى يسوغ ذلك ، ويسوغ له أن ألفاظ العربية ـ حسب المنكرين للترادف ـ لا يمكن أن يحل أحدها مكان الآخر، فالريب والشك بينهما فروق في المعنى، وأكثر ما يؤكد الفرق بينهما أن الريب جاء وصفا للشك في عدة مواقع من القرآن الكريم، كقوله : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ " هود. وقوله تعالى في سبأ: " وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ" ، والشيء لا يوصف بنفسه ولكن يوصف بوصف يقاربه معنى، وهذا يؤكد قول المنكرين للترادف الباحثين عن الفروق. فالشك هو التداخل الداعي إلى الغموض وعدم استبانة الأمور، والتردد. أما الريب فهو شك مع تهمة مصحوبة بقلق النفس واضطرابها، والشك المريب هو التردد الموقع في القلق والاضطراب.
البحث الثالث : الأضداد فى القرآن
أ- مفهوم التضاد في اللغة.
التضاد أن يطلق اللفظ الواحد على المعنى وضدِّه. وهو فرع من المشترك اللفظي أي اللفظ الذي له أكثر من دلالة، غير أنَّ اللفظ من الأضداد له معنيان أحدهما نقيض الآخر، أي أنَّ الاختلاف بينهما اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع وتغاير كما هي الحال في المشترك اللفظي. قال أحمد ابن فارس (ت395هـ): "ومن سنن العرب في الأسماء أنْ يسمُّوا المتضادَّين باسم واحد، نحو (الجون) للأسود و(الجون) للأبيض. وأنكر ناس هذا المذهب، وأنَّ العرب تأتي باسم لشيء وضدِّه. وهذا ليس بشيء، وذلك أنَّ الذين رَوَوا أنَّ العرب تسمي السيف مهنَّداً والفرس طِرْفَا، هم الذين رَوَوا أنَّ العرب تُسمِّي المتضادَّين باسم واحد ".
ب- بعض ألفاظ الأضداد في القرآن الكريم:
إنَّ من أهم الأسباب التي دفعت اللغويين إلى التأليف في الأضداد، هو ورود طائفة منها في القرآن الكريم، وقد صرح بذلك أبو حاتم السجستاني (ت نحو 255هـ) في مقدمة كتابه في الأضداد، حيث قال: " حَمَلَنا على تأليفه أنَّا وجَدْنا من الأضداد في كلامهم والمقلوب شيئاً كثيراً، فأوضحنا ما حضر منه إذ كان يجيء في القرآن (الظن) يقيناً وشكاً، و(الرجاء) خوفاً وطمعاً، وهو مشهور في كلام العرب… فأرَدْنا أنْ يكون لا يرى من لا يعرف لغات العرب أنَّ الله عزَّ وجل حين قال: ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ…) ، مدَحَ الشاكِّين في لقاء ربهم وإنما المعنى: (يستيقنون)، وكذلك في صفة من أُوتي كتابه بيمينه من أهل الجنة: ( هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنتُ..) يريد: (إنِّي أيقنت)، ولو كان شاكاً لم يكن مؤمنا، وأما قوله: ( قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ ) فهؤلاء شُكَّاكٌ كفارٌ.
ويرى أكثر الدارسين من اللغويين أنَّ الدفاع عن ظاهرة التضاد الدلالي في اللغة العربية والاهتمام بها من قبل اللغويين القدامى، كان لغرض الدفاع عما ورد منها في القرآن الكريم، ومن أجل الرد على الشعوبيين الذين كانوا يُزرون بالعرب، ويصمون لغتهم بالعجز عن التعبير بشكل واضح، والافتقار إلى الدقة، وقد أشار إلى هؤلاء ابن الأنباري في مقدمة كتابه في الأضداد فقال: " ويظن أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب، أنَّ ذلك كان منهم، لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم، وكثرة الالتباس في محاوراتهم، عند اتصال مخاطباتهم ". ويرد على هؤلاء بقوله: إنَّ " كلام العرب يصحح بعضه بعضاً ويرتبط أوله بآخره، ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيَين المتضادَّين، لأنَّها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيَين دون الآخر، ولا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد ". فهو يؤكد أنَّ مردَّ الأمر في مسألة الأضداد في اللغة، إلى سياق الكلام وارتباط أوله بآخره، وإلى قرائن الحال التي يكون فيها الناس في لحظة التخاطب.
فالدفاع عن ظاهرة الأضداد في اللغة العربية دفاع بالضرورة عما ورد منها في القرآن الكريم كذلك. وقد أثير نقاش واسع في مسألة الأضداد في القرآن الكريم لدى أهل اللغة، بين منكر ومثبت لوجودها فيه، وبين موسِّع ومضيق لمفهومها وشرطها.
وسوف نحاول أنْ نستجلي حقيقة الأمر في شأنها، من خلال دراسة بعض تلك الألفاظ القرآنية التي قيل إنَّها من الأضداد وما ذكره لها أهل اللغة والمفسرون من دلالات، وأنْ نتبيَّن الأثر الذي تركته تلك الألفاظ في معاني الآيات القرآنية. ومما ينبغي التنبيه إليه أنَّ أكثر تلك الألفاظ قد جاء في القرآن الكريم بأحد معنييه الضدَّين ولم يأت بالمعنى الآخر، إمَّا لأنه لم يَرِد إلا مرة واحدة في القرآن، أو لأنَّ القرآن قد استعمله في إحدى دلالتَيه دون الأخرى.وبعض تلك الألفاظ قد فُسِّر بالوجهَين الضِّدين معاً، وهي أقل من النوع الأول. وسوف نتناول بالدراسة مجموعة منتخبة من تلك الألفاظ من النوعين، مرتبة على هجاء الحروف.
1- أقوى: من (المقوين) في قوله تعالى: ( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ) . قال الأصمعي: " والمقوي الذي لا زاد معه ولا مال، يقال: قد أقوت الدار من أهلها أي خلت، يقال: بات فلان القواء. أي: لا طعام عنده، قال الله عز وجل: (وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ) ، وفي موضع آخر: المقوي: الكثير المال… والمقوي الذي له دابة قوية وظهر قوي ". وقال ابن السكيت كقوله. وقال أبو حاتم السجستاني: " رجل مقوٍ، أي: قوي الإبل مليء… والمقوي أيضاً الضعيف، قال تعالى في القـرآن: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً للْمُقْوِينَ) . قال النابغة:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياء فالسندِ # أقْوَتْ وطال عليها سالف الأبدِ
أي: خلت وذهب أهلها ".فالمقوي عند الأصمعي هو من لا زاد معه ولا مال، أي: الضعيف الفقير. وضد هذا المعنى عنده هو الرجل القوي الكثير المال. وأما ما ذهب إليه السجستاني من أنَّ (المقوي) تعني الرجل صاحب الإبل القوية، وتأتي بمعنى الرجل الضعيف، فليس ثمة تضاد بين المعنيَين، فتكون هذه اللفظة على قوله من المشترك اللفظي بمعناه العام وليس من الأضداد. هذه أقوال أهل اللغة، أما المفسرون فقالوا: إن (المقوين) تعني المسافرين قاله ابن عباس. وقال مجاهد: (ومتاعاً للمقوين) للمستمتعين المسافر والحاضر. وفي رواية أخرى عنه، قال: " (للمقوين) المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها ".
وقد رجح الطبري قول ابن عباس فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال عنى بذلك المسافر الذي لا زاد معه ولا شيء له، وأصله من قولهم: أقوت الدار إذا خلت من أهلها وسكانها… وقد يكون المقوي ذا الفرس القوي وذا المال الكثير في غير هذا الموضع ".
والذي أرجحه أنَّ المقوي هو المسافر؛ لأنَّ اللفظ مأخوذ من أقوت الدار، أو لأن المسافر ينزل القيَّ أو القواء وهي الأرض القفر التي لا أنيس فيها. وقد قال بعض المفسرين: وخص المسافر بالانتفاع بالنار، لأنَّ انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم، لأنَّ أهل البادية لابد لهم من النار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السباع، وفي كثير من حوائجهم.وإذا صحَّ هذا المعنى فإنَّ القول إنَّ هذه اللفظة من الأضداد فيه نظر، لأنَّ المقيم هو المعنى الضد للمسافر، أما المعاني التي ذكرت على أنَّها أضداد لهذا المعنى فليس فيها ما يحمل معنى الضدية.
2- خفا: عدَّ أهل اللغة هذه اللفظة من الأضداد، قال الأصمعي: " وأخفيت الشيء كتمته وأخفيته: أظهرته، وفي القرآن: ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) أي: أظهرها ". قال السجستاني: " وأما من قرأ (أخفِيها ففتح الألف فذلك معروف في معنى أظهرها، ومن ذلك قول امرئ القيس يذكر فرساً جرى جرياً أخرج الحشرات من أنفاقها:
خَفَاهُنَّ من أنفاقهنَّ كأنَّما # خفاهنَّ ودقٌ من عشيٍّ مُجَلَّب "
وما ذكره المفسرون في معنى هذه اللفظة على القراءة المشهورة لا يتفق مع ما قاله أهل اللغة، فقد رُوِيت عن ابن عباس روايات مختلفة في تفسير هذه الآية، وكلها تتضافر على أنَّ معنى أخفيها: أكتمها فلا يطلع عليها أحد، خلافاً لما قاله أهل الأضداد من أنها أفادت ضد معناها وهو (أظهرها).ومما قاله ابن عباس في قوله: (أَكَادُ أُخْفِيهَا) قال: أي لا أظهر عليها أحداً غيري.
وفي رواية أخرى قال: معناه لا تأتيكم إلا بغتة(. وقال مجاهد: إنَّ معنى الآية أكاد أخفيها من نفسي.وهذه الأقوال كلها تدل على أنَّ معنى (أخفيها) هو المعنى المعهود لها أي: الستر والكتمان، فليس ثمة ما يوحي بوجود تضاد في دلالات هذه اللفظة. ويبدو أنَّ من ذهب إلى أنَّها من ألفاظ الأضداد حملها على القراءة الثانية للآية بفتح الهمزة (أَخفيها)، وهي قراءة غير مشهورة. ومعناها: أزيل خفاءَها.
وقد ردَّ الطبري قول من قال إنَّ معناها: أظهرها، كما ردَّ القراءة بفتح الهمزة، ورجَّح ما ذهب إليه ابن عباس ومجاهد من أنَّ معناها: أسترها، فقال: " والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال معناه: أكاد أخفيها من نفسي لأنَّ تأويل أهل التأويل بذلك جاء، والذي ذكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلاً مستفيضاً، فإن قال قائل، لِمَ وجهت تأويل قوله: (أكاد أُخفيها) -بضم الألف- إلى معنى أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أنَّ للإخفاء في كلام العرب وجهين أحدهما الإظهار والآخر الكتمان، وأنَّ الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد يكون عند السامعين أنْ يستحيل معناه، إذ كان محالاً أنْ يخفي أحد عن نفسه شيئاً هو به عالم، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية؟ قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجهنا معنى أُخفيها -بضم الألف- إلى معنى أسترها من نفسي لأنَّ المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب الستر. يقال: قد أخفيت الشيء إذا سترته، وأنَّ الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهار اعتمدوا على بيت لامرئ القيس بن عابس الكندي:
فإنْ تدفنوا الداء لا نُخْفِه # وإنْ تبعثوا الحربَ لا نقعدِ
بضم النون من (لا نُخفه) ومعناه: لا نظهره، فكأنَّ اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت على ما وصفت من ضم النون من نُخفه. وقد أنشَدَنِي الثقة عن الفراء: (فإنْ تدفنوا الداء لا نَخْفِه) -بفتح النون- من (نخفه) من خفيته أَخفيه وهو أولى بالصواب، لأنه المعروف من كلام العرب، فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من (أخفيها) غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصح الوجه الآخر وهو أنَّ معنى ذلك: أكاد أسترها من نفسي.
فلا حجة بعد قول ابن عباس ومجاهد وقول الطبري هذا لمن يزعم أنَّ تلك اللفظة جاءت في الآية بضد معناها المعروف، إلا على قراءة من قرأها بفتح الهمزة، لأنَّ اختلاف بناء الكلمة من الممكن أنْ يتبعه اختلاف في دلالتها. ولم يختلف أهل اللغة ولا المفسرون في أنَّ (خفا) قد دلت على الستر والكتمان في قوله تعالى: ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) وفي قوله تعالى: ( قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) لأنَّ السياق كان حاسماً في توجيه دلالة اللفظة إلى معنى الكتمان والتغطية.
3- رجا: عَدَّ أهل اللغة (رجا) من ألفاظ الأضداد، فقد قال الأصمعي: «ويقال: ما رجوت فلاناً، أي ما أمَّلته، وما رجوته، أي ما خفته، وقال الله جل وعز: ( مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ) ، أي لا تخافون لله عظمة.." وقال السجستاني: " والرجاء يكون طمعاً ويكون خوفاً، وفي القرآن في معنى الطمع: ( وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ) ، وقوله تعالى: ( وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن ربِّكَ) ، وقوله تعالى: ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن ربِّكَ تَرْجُوهَا ) … والرجاء في القرآن في معنى الخوف كثير، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) ، و( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ) ، وقوله تعالى: ( وَارْجُوا اليَوْمَ الآخِرَ ) ، وهو كثير.
وقد تقلبت دلالات هذه اللفظة عند المفسرين بين دلالتي الخوف والطمع، وقد أشار إلى معنى الخوف ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ( مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ) فقال: أي مالكم لا تعظمون الله حق عظمته، وقال مجاهد: أي مالكم لا تبالون عظمة ربكم. والرجاء: الطمع والمخافة.
وجاءت بمعنى (الطمع) في قوله تعالى: ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن ربِّكَ تَرْجُوهَا ) ، قال ابن عباس: ابتغاء رزق(، وقال مجاهد: انتظار رزق الله عز وجل. ويبدو لي أنَّ عدَّ (الرجاء) من ألفاظ الأضداد فيه شيء من التجوز والتوسيع لمفهوم التضاد وإنما هو من المشترك اللفظي، لأن الخوف والطمع ليسا متضادين في حقيقة الأمر، فالخوف ضده التجلد والشجاعة، والطمع ضده اليأس وانقطاع الأمل، فليس ثمة تضاد بين المعنيين.
4- سجر: قال أهل اللغة: إن (المسجور) من ألفاظ الأضداد، وتعني الفارغ والملآن معاً، واستدلوا بقوله تعالى: ( وَالْبَحْرِ المَسْجُور ِ) ، وقوله: ( وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ) ، قال الأصمعي: " ويقال: المسجور: المملوء، والمسجور: الفارغ، قال الله جل وعز: (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ) أي: فُرِّغ بعضها في بعض، وحكى أبو عمرو: سجر السيلُ الفراتَ، والنهرَ والصنعةَ يسجرها سجراً إذا ملأها، والبحر المسجور الملآن… ويقال: هذا ماء سجر إذا كان ماء بئر قد ملأها السيل.
وقال أبو حاتم السجستاني: " وقالوا: المسجور المملوء… وقال بعضهم المسجور الفارغ، بلغني ذاك ولا أدري ما الصواب، ولا أقول في (البحر المسجور) شيئاً ولا (وإذا البحار سجرت) لأنه قرآن فأنا أثق به، وقالوا: قالت جارية بالحجاز: إن حوضكم لمسجور. ولم تكن فيه قطرة، قال أبو حاتم: يمكن أن يكون هذا على التفاؤل، كما يقال للعطشان: ريان، وللملدوغ: السليم.
هذا قول أهل اللغة، أمَّا المفسرون فقد اختلفوا في معنى (المسجور) في قوله تعالى: (وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ) فقال بعضهم: المسجور المُوقَد كالتنور المسجور، ونقل هذا القول عن مجاهد وبعض المفسرين الأوائل وقال قتادة: المسجور المملوء. وروى الطبري قولين لابن عباس في معنى المسجور، أحدهما: أنه البحر الذي قد ذهب ماؤه. فكأنه يريد أن معناها الفارغ.
والثاني قوله: إن معناها: (المحبوس) فكأنه يريد أن (البحر المسجور) هو الممتلئ. وهذان القولان يدلان على إحساس ابن عباس أن هذه اللفظة من الأضداد وأنها تحتمل المعنيين معاً، ولكن ليس ثمة قرينة تقطع بأن المراد هذه الدلالة أو تلك لذلك فقد تردد كلامه بين الدلالتين.
وقد رجَّح الطبري القول الثاني منهما وهو أنَّ (المسجور) معناها (الممتلئ) وذلك بقرينة عقلية حيث قال: " وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال معناه: والبحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض، وذلك أن الأغلب من معاني السجر الإيقاد كما يقال: سجرت التنور بمعنى أوقدت… فإذا كان ذلك الأغلب من معاني السجر وكان البحر غير موقد اليوم، وكان الله تعالى ذكره قد وصفه بأنّه مسجور، فبطل عنه إحدى الصفتين وهو الإيقاد، صحت الصفة الأخرى التي هي له اليوم وهو الامتلاء لأنه كل وقت ممتلئ ".
وأما قوله تعالى: (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ)، فقد قال ابن عباس في تفسيرها: تُسْجَرُ حتى تصير ناراً ،وقال محمد بن السائب الكلبي (ت146هـ) وهو أحد الذين أكثروا من الرواية عن ابن عباس: إنَّ معنى (سُجّرت) مُلئت. ألا ترى أنه قال: (وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ).
وقد يفهم من هذين القولين أن معنى (سُجّرت) عند ابن عباس في هذا الموضع ملئت لهباً. يقوي ذلك أيضاً قول مجاهد إن معناها: أُوقدت، وقول عكرمة: إن معناها أفيضت. وهذا القول دال على الامتلاء دون غموض. فهذه الأقوال تكاد تتفق على أنها تعني الامتلاء. وقال آخرون ومنهم الحسن البصري وقتادة: إن معنى (سجرت) ذهب ماؤها ويبست فلم يبق فيها قطرة(.
واختلاف هذه الأقوال وترددها بين معنيين متضادين في تأويل هذه اللفظة والتي قبلها يدل على إحساس المفسرين أنها من ألفاظ الأضداد، وأنها تحتمل الدلالتين المتعارضتين معاً، ولكن ليس لديهم القرائن الكافية التي ترجّح هذه الدلالة على تلك. وقد رجح الطبري القول الأول من هذه الأقوال، أي: (ملئت) واستدل له بقرينة من السياق القرآني في موضع آخر، وهو قوله تعالى: ( وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ ) الانفطار:3] فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك ملئت حتى فاضت فانفجرت وسالت، كما وصفها الله به في الموضع الآخر فقال: (وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ)، والعرب تقول للنهر أو للركي المملوء: ماء مسجور، ومنه قول لبيد:
فتوسَّطا عرض السَّريِّ وصَدَّعا # مسجورةً مُتجاوراً قُلاَّمُها
ويعني بالمسجورة المملوءة ماء ". وهذا الأثر الواضح الذي تركته هذه اللفظة في معنى الآيتين، يدل على أنَّها تنتمي إلى ألفاظ الأضداد حقاً، وليس ترددُ المفسرين بين معنييها إلا دليلاً على ذلك، فلا مجال إذن لإنكار وجود هذا النوع من الألفاظ في اللغة أو في القرآن الكريم.
5- سَرَّ: وقد ذكر مؤلفو كتب الأضداد أن (أسرَّ) من ألفاظ الأضداد، قال الأصمعي:
" ويقال: أسررت الحديث كتمته وأسررته أظهرته، قال الشاعر وهو الفرزدق:
فلما رأى الحجاجَ جرَّد سيفَه # أسَرَّ الحروريُّ الذي كان أضمرا
وقال الله جلّ ثناؤه: ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ ) أي أظهروها ". وقال السجستاني: " وقال أبو عبيدة: أسررت الشيءَ أخفيته وأظهرته أيضاً، وكان يقول في هذه الآية: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ) أظهروها، ولا أثقُ بقوله في هذا والله أعلم، وقد زعموا أن الفرزدق قال: فلما رأى الحجاج.. (البيت).
ولا أثق أيضاً بقول الفرزدق في القرآن، ولا أدري لعلّه قال: الذي كان أظهرا أي كتم ما كان عليه.."( ولم أقف على قول أبي عبيدة المذكور في كتابه (مجاز القرآن) ، إلا أنْ يكون قد ذكره في كتاب آخر له لم يصلنا، وقال أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) : " أسروا من حروف الأضداد أي أظهروا " وجاء في (اللسان): " قال شمر: لم أجد هذا البيت للفرزدق، وما قال غير أبي عبيدة في قوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ)، أي أظهروها، قال: ولم أسمع ذلك لغيره. قال الأزهري: وأهل اللغة أنكروا قول أبي عبيدة أشدَّ الإنكار، وقيل: أسروا الندامة… أخفوها، قال الزجاج: وهو قول المفسرين ".
وقد ذكر أبو الطيب اللغوي أن ابن عباس كان يقول: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) أي: أخفوها في أنفسهم. وقال الفراء في تفسيرها: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ): " يعني الرؤساء من المشركين أسرُّوها من سفلتهم الذين أضلوهم، فأسروها أي أخفوها " ولم يذكر أنها من الأضداد. أما الآية الثانية، وهي قوله تعالى: ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، فلم أجد فيها قولاً لابن عباس أو مجاهد، وأكثر المفسرين على أن معنى (أسروا) أخفوا، قال الفراء: " وإنما قيل: (وأسروا) لأنَّها للناس الذين وصِفوا باللهو واللعب. وقال الزمخشري: " فإن قلت: النجوى… لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله: (وأسروا)؟ قلت: معناه وبالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون ". وبناء على ما تقدم فإنّه يمكننا القول: إنَّ نسبة هذه اللفظة إلى الأضداد هي موضع شك، ومما يقوي هذا الشك في انتمائها إلى الأضداد، أنه لا يوجد أثر لمعانيها التي قيل إنها متضادة في تفسير الآيات، حيث لم يذكر الثقات من المفسرين إلا المعنى المعروف لها وهو الإخفاء والكتمان.
6- شَرى: قال أهل اللغة إنَّ (شَرَى) من الأضداد، وهي تعني البيع والشراء معاً. قال الأصمعي: " شراه ملكه بالبيع وأيضاً باعه، فمن الشراء بمعنى البيع قول الكتاب العزيز: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) أي: يبيعها وقوله تعالى: ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) ".
وقال السجستاني: " وقالوا: شريت الشيء بعته واشتريته، وبعته أوضح الوجهين، وفي القرآن: ( الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة ) ، و ( مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ) : يبيعها، ومن ذلك سمي الشاري والشراة من الخوارج".
ولم أجد في معنى (الشراء) في الآية الأولى، [البقرة:207]، قولاً لابن عباس أو تلميذه مجاهد. وقال أبو عبيدة: يشري نفسه: يبيعها. وقال السُّدِّي في تأويل قوله تعالى: ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) بئس ما باعوا به أنفسهم ولم يرد فيها قول لابن عباس أو مجاهد أيضاً. أما قوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) فقد قال ابن عباس: أي فباعه إخوته بثمن بخس( وقال مجاهد: باعوه باثنين وعشرين درهماً. ولم تأتِ (شرى) في القرآن الكريم بدلالتها الثانية وهي اشتر.
7- صرخ: قال أهل اللغة: (الصريخ) هو المستغيث والمغيث، ومنه قوله تعالى: ( فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ )[يس:43]، أي: لا مغيث لهم. ومنه قول العرب: عبد صريخُهُ أَمَةٌ. أي مُغيثه(وهو مثل يضرب للذليل يستعين بمن هو أذل منه. قال أبو الطيب اللغوي: وأصل الصراخ رفع الصوت ويبدو أن هذا اللفظ قد عممت دلالته على جهة الاتساع في الكلام، ليشمل كل صارخ، سواء أكان الصارخ مغيثاً أم مستغيثاً، والمعنى المشترك بين المعنيين هو الصراخ: " لأن المغيث يصرخ بالإغاثة والمستغيث يصرخ بالاستغاثة، فأصلهما من باب واحد ".
وقد أجمع أهل التفسير أيضاً على أن (الصريخ) في الآية المذكورة هو المغيث والمنقذ ولم يُؤثَر عن ابن عباس أو مجاهد قول في تأويل هذه الآية.
ويبدو أن السياق اللغوي هو الذي وَجّه تأويل اللفظة إلى تلك الدلالة، يُستدلّ على ذلك بقوله تعالى: ( وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ) ، فالمعهود أن الغريق هو الذي يصرخ طلباً للغوث والإنقاذ. ولم تأت هذه اللفظة في القرآن الكريم إلا بهذه الدلالة، أي: (المغيث) ولم تأت بالدلالةِ الثانية لها وهي (المستغيث) في القرآن الكريم كله.
8- صرم: قال أهل اللغة: إن (الصريم) من ألفاظ الأضداد، وهو يعني الصبح والليل معاً. قال السجستاني: " والصريم: الليل إذا تَصَرَّم من النهار، والنهار إذا تصرم من الليل.." وقال الأصمعي: " ومن الليل قول الله تعالى: ( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ) ، أي: كالليل ".
وقال أبو الطيب اللغوي: " قالوا: وفي قول الله عز وجل: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) يجوز أن يكون أراد المصروم. ويجوز أن يكون أراد الليل المظلم، قال قطرب: وأحسبه قول ابن عباس. وأنشدوا لابن حُمَيِّر تَوْبَة:
عَلامَ تَقولُ عاذلتي تلومُ # تؤرقني إذا انجابَ الصريمُ
يعني الليل ". وقد اختلف المفسرون في المراد بـ(الصريم) في الآية المذكورة، فقال بعضهم: عنى به الليل الأسود البهيم، وقال آخرون: هي أرض باليمن تسمى الصريم، وروى الطبري عن ابن عباس أنه قال: الصريم الليل. والذي يظهر أن الصواب ما قاله ابن عباس، لأن أصدق وصف لتلك الجنة التي دمرها الله سبحانه بسبب عزم أصحابها على منع المساكين من ثمرها أن توصف بعد الخراب الذي حلَّ بها بأنها أصبحت محترقة كالليل المسود قال ابن قتيبة: " (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)، أي: سوداء كالليل، لأن الليل ينصرمُ عن النهار، والنهار ينصرم عن الليل "، ولم ترد هذه اللفظة في غير هذا الموضع من القرآن الكريم.
9- عَسْعَس: قال أهل اللغة: " عَسْعَسَ الليلُ إذا أقبلَ وعسعس أدبر... وقال بعضهم: إذا ولى". ونقل السجستاني عن أبي عبيدة أنَّه فسر قوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) بقوله: عسعس أقبلَ ويقال أدبرَ. وما جاء في (مجاز القرآن) لا يؤكد نسبة هذا القول إلى أبي عبيدة، لأنَّ أبا عبيدة نفسه نقل كلام بعض أهل اللغة في معنى (عسعس الليل) فقال: " قال بعضهم إذا أقبلت ظلماؤه، وقال بعضهم: إذا ولّى، ألا تراه قال: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) .
قال السجستاني: " قد تَقَلّد أبو عبيدة أمراً عظيماً، ولا أظن هاهنا معنى أكثر من الاسوداد. عسعس: أظلم واسودَّ في جميع ما ذكر، وكل شيء من ذا الباب في القرآن فتفسيره يُتَّقَى، وما لم يكن في القرآن فهو أيسر خطباً. وقد رد أبو الطيب اللغوي قول السجستاني: إنَّ معنى (عسعس) أظلم واسودّ فقال: " وليس الأمر كما ظن، فقد أنشد قطرب لعلقمة بن قُرْط التيميّ:
حتى إذا الصبحُ لها تنفَّسا # وانجاب عنها ليلُها وعَسْعسا
فهذا لا يحتمل أن يكون المعنى فيه إلا أدبر، لأنّ من المحال أن يقول: انجاب عنها ليلها وأظلم، وإنَّما ينجاب بالضوء ".ونقل أبو الطيب نفسه أن ابن عباس قال في قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) أي: أدبر، وقال غيره أظلم، وقال آخرون: أقبل. وذكر الطبري اختلاف المفسرين في هذه اللفظة، فقال بعضهم: عسعس الليل: أدبر، وقال آخرون: معناها: أقبل بظلامه، وروى رواياتٍ عدة عن ابن عباس: أن معناها أدبر وقال مجاهد: (إذا عسعس) يعني: إذا أدبر وفي رواية عنه نقلها الطبري تردد كلامه بين المعنيين، فقال يعني: إقباله، ويقال: إدباره( وهذا يدل على إحساسه بأنّ هذه اللفظة تحتمل هاتين الدلالتين المتضادتين معاً. لكنه عاد إلى ترجيح إحداهما وهي الإدبار كما جاء في تفسيره.
وقد رَجّح الطبري هذا المعنى أيضاً بقرينة من السياق هي قوله بعد تلك الآية مباشرة: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)، وتَنَفُّسُ الصبحِ إقباله، وهو إيذان بإدبارِ الليل، حيث قال: " وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال معنى ذلك: إذا أدبر. وذلك لقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) فدلَّ بذلك على أنّ القَسَمَ بالليل مدبراً وبالنهار مقبلاً. والعرب تقول: عسعس الليل وسَعْسَعَ الليل إذا أدبر ولم يبق منه إلا اليسير، ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
يا هندُ ما أسرعَ ما تَسَعْسَعَا # ولو رَجا تَبْعَ الصِّبا تَتَّبعا
هذه لغة من قال: سعسع.." وقال الفراء: " اجتمع المفسرون على أن معنى (عسعسَ): أدبرَ، وكان بعض أصحابنا يزعم أن عسعس: دنا من أوله وأظلم.." والذي يبدو أنّ المعنى الراجح لهذه اللفظة في هذا الموضع الوحيد من القرآن الكريم هو: (أدبر)، لاجتماع القرائن اللفظية على ذلك. أما اختلاف أقوال المفسرين بين دلالتين متعارضتين لها فهو يؤكد أنها من ألفاظ الأضداد حقاً.
10- عفا: وذكر أهل اللغة أن (عفا) من ألفاظ الأضداد، وأنه يقال: عفا الشيء إذا دَرَسَ، وعفا إذا كثر، قال الأصمعي: «ومنه قول الله جلّ ثناؤه: ( حَتَّى عَفَوْا ) ، معناه: حتى كثروا، ويقال: قد عفا شعره إذا كثر، وعفا ظهر البعير إذا سمن وكثر لحمه..».
وقال ابن عباس في تأويل الآية المذكورة (حَتَّى عَفَوْا): " حتى كثروا وكثرت أموالهم ". وقال مجاهد: أي كثرت أموالهم وأولادهم وعلى هذا أكثر المفسرين.
والذي يبدو أن هذا اللفظ (عفا) قد أصابه نوع من التطور الدلالي وهو النقل المجازي للمشابهة، وأنه في أصله يدل على كثرة النبات والشعر، ثم استعير للدلالة على الغنى والكثرة في بني الإنسان. قال الزمخشري في تفسير الآية المذكورة: (حَتَّى عَفَوْا) أي: " كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت ومنه قوله (ص): ((وأَعْفوا اللِّحَى))".
وإذا صح هذا المعنى فإنه يمكننا القول: إن عَدَّ هذا اللفظ من الأضداد فيه شيء من التجوز والتوسيع لمفهوم التضاد، لأنَّ الغنى والكثرة يضاده في المعنى الفقر والقلة ولا يضاده انمحاء الأثر ودروسه كما ذهب إلى ذلك مصنفو كتب الأضداد. وعلى ذلك فإنّه ينبغي إعادة النظر في معظم الألفاظ التي قيل إنها من الأضداد.
وقد ذكر بعض الدارسين المحدثين أن هناك جملةً من الأسباب التي دفعت علماء اللغة الأقدمين إلى التوسع في هذا الموضوع حتى أدخلوا في الأضداد ألفاظاً كثيرة لم تكن تشتمل على طبيعة الأضداد، وعَدّ منها ما يقرب من مئة وخمسين مادة لغوية حفلت بها كتب الأضداد وهي لا تحمل التضاد الدلالي إلا بضرب من التأوّل البعيد.
11- فاز: أي نجا، ومنه (المفازة) قال الأصمعي: " وسموا المفازة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا، وهي مهلكة، قال الله جلّ ثناؤه: ( فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ ) أي بمنجاة، وأصلُ المفازة مهلكة فتفاءلوا بالسلامة والفوز، كقولهم للملدوغ سليم، والسليم المعافى.
وقال ابن الأعرابي: أخطأ الأصمعي، إنّما سميت مفازةً لأنَّ من قَطَعها فاز ويبدو أن هذا هو الصحيح. وقد قال المفسرون أيضاً: إنَّ معنى الآية المذكورة: فلا تظننّهم بمنجاة من العذاب أي: لا تحسبنّهم بمكانٍ بعيد من العذاب، لأنّ الفوز التباعد عن المكروه. ولم يرد في هذه اللفظة قول لابن عباس أو مجاهد. علماً بأنها لم تأت بهذه الصيغة في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع.
الفصل الثالث : التصورات التربوية الإسلامية
البحث الأول : العوامل الهامة فى التصورات التربوية الإسلامية
أ- أهمية الأهداف التربوية :
تمثل الأهداف الخطوة الأولى التي تعكس الفلسفات و نظم الحياة و الأوضاع الاجتماعية و المشكلات و التحديات و الطموحات في أي من المجتمعات ، كما تأخذ بعين الاعتبار مطالب المجتمع و ما يناسبه من اتجاهات تربوية معاصرة ، تنعكس الأهداف على أسس بناء المناهج و المقررات و الكتب و الطرق و الوسائل و جميع مكونات العملية التربوية التي تستهدف بناء الفرد و المجتمع و يعتبر تحديد الأهداف التربوية الترجمة العلمية للفلسفة التربوية التي تسود المجتمع ،إذ بواسطتها تتحول المفاهيم و التصورات و الآمال التي تهدف الأمة على اختلاف أفرادها و هيئاتها إلى تحقيقها في المجال التربوي إلى أهداف محددة المعالم يلتزم النظام التعليمي بتحقيقها (2) .
كما أن الدقة في اختيار الأهداف التربوية و تحديدها أمر له أهميته لأنه يترتب عليه بناء المناهج المناسبة و أوجه النشاط التعليمي و اختيار الكتب المدرسية و التخطيط لطرق التدريس التي تحقق الأهداف و من ثم تقوم العملية التربوية بمجموعها ،كما يمكن اعتبار الأهداف التربوية في معظمها محصلة للواقع الاجتماعي بأبعاده المتعددة .
الأهداف العامة للتربية :
أولا : الأهداف التي تتصل بطبيعة المجتمع :
الايمان بمبادئ الدين الإسلامي ،بحيث تصبح هذه المبادئ منهجا فكريا وأسلوب حياة يتجسد في سلوك الفرد و علاقاته الاجتماعية .
التعريف بالتراث العربي الإسلامي و العادات و التقاليد الاجتماعية فيه و العمل على دعمها .
التعريف على تاريخ و تطوير المجتمع الكويتي و تراثه و ما تتميز به حياته الاجتماعية .
تنمية الشعور لدى الأفراد بالانتماء و الاعتزاز بوطنهم الكويت ،و بالوطن العربي و العالم الإسلامي.
تقوية روابط التضامن و الاخاء وروح الاسرة الواحدة بين أبناء الوطن ،و التخلص من أي تعصب يرجع إلى المذهبية أو الاقليمية أو القبلية أو الطبقية .
إعداد الأفراد للحياة الفعالة في مجتمع يقوم على الشورى و الديمقراطية و تأكيد حرية الفرد و كرامته و الاهتمام بالأمور العامة و الاستقلال في رأي الجماعة ،وممارسة مهارات العمل الجماعي.
إعداد أفراد يعرفون مالهم من حقوق و ما عليهم من واجبات .
ثانيا :الأهداف التي تتصل بطبيعة العصر :
الاهتمام بدراسة المجالات العلمية الحديثة ،و تطبيقاتها بما يجعل الأفراد قادرين على تمثل مظاهر التقدم العلمي من حولهم . و الافادة بما تقدمه التقنية الحديثة من أجهزة و أدوات .
تنمية وعي المواطنين لحماية أنفسهم من آثار الدعاية التي تحاول أحيانا اخضاع الشعوب و الأفراد لمصالح خاصة .
تأكيد الربطة بين النظرية و التطبيق ، و بين العلم و العمل .
توفير الأساليب التي تساعد على سرعة تكيف الأفراد للتغيير الاجتماعي السريع ، و الإسهام فيه.
العناية بحفظ التوازن بين القيم الروحية و القيم المادية .
تحقيق كل من العمق و الشمول في اعداد الأفراد للحياة .
ثالثا:الأهداف التي ترتبط بمطالب نمو المتعلمين و خصائصهم :
مساعدة الأفراد على النمو الروحي السليم ، وتهذيب سلوكهم بالتحلي بالأخلاق التي يدعو لها الدين الاسلامي .
مساعدة الأفراد على النمو العقلي السليم .
مساعدة الأفراد على النموالجسمي السليم .
تهيئة الفرص للأفراد بما يوفر لهم النضح الانفعالي السليم .
تنمية التذوق الجمالي و التعبير الفني ، بحيث يستشعر الأفراد مظاهر الجمال فيما حولهم ، ويستمتعون بها و يعبرون عنها .
إعداد الأفراد لحياة أسرية ناجحة ،و لمواجهة المشكلات السكانية .
الاهتمام بالتربية المهنية ، و ما تقتضيه من توجيه دراسي و مهني .
تنمية قدرة الأفراد على التفكير بأسلوب علمي ،و العمل بما يتضمنه من دقة الملاحظة ،و الاستقصاء ،وعدم التعصب ،و الاستناد في الرأي إلى الدليل المقنع و البرهان القاطع .
تنمية قدرة الأفراد على الإبداع و الابتكار و التجديد .
تنمية مستويات الطموح لدى الأفراد و تهيئة الفرص أمامهم للوصول إلى أقصى ما تسمح به قدراتهم ومواهبهم بما يحقق الخير لهم و للمجتمع .
رعاية الموهوبين و المتفوقين في جميع المجالات لإعداد القيادات القادرة على دفع عجلة التقدم في المجتمع
رعاية المتخلفين و المعوقين واعداد البرامج الملائمة لمواجهة احتياجاتهم و حل مشكلاتهم و تحويلهم إلى قوة فعالة تسهم في بناء الوطن .
تنشئة أجيال قادرة على تحمل المسئولية في شتى صورها و نواحيها ، وتشجيع الأفراد على المبادرة و اتخاذ القرارات بأنفسهم ، والتخطيط لمستقبلهم ،و الاعتماد على جهودهم و نتائج أعمالهم .
تهيئة الفرص لإعداد أفراد قادرين على تحمل مسئولية التغيير و التطوير و رفض كل مظاهر التخلف و الجمود.
الوفاء بحاجات المجتمع الكويتي من القوى البشرية المؤهلة اللازمة لمتطلبات التنمية في مختلف القطاعات
اعداد الأفراد للعمل ،و ما يرتبط بذلك من اتجاهات نحو تقدير العمل و العاملين .
إسهام الأفراد بالوقت و الجهد و المال من أجل خدمة الجماعة و العمل على تقديمها .
(التعرف على امكانات الوطن العربي و طاقاته المادية و البشرية كخطوة في سبيل تحقيق التكامل و التعاون و التكامل بين أرجاء الوطن العربي .
إعداد الأفراد للتعامل الناجح مع الآخرين في مجتمعهم .
مساعدة الأفراد على حل مشكلاتهم الشخصية و الاجتماعية ، ومشكلات العمل ووقت الفراغو غيرها .
رابعا : الأهداف المرتبطة بالاتجاهات التربوية المعاصرة :
-تحقيق ايجابية الفرد و نشاطه .
-تنمية القدرة على ممارسة التعلم الذاتي .
-مساعدة الأفراد على ممارسة التعلم المستمر مدى الحياة .
-الانتفاع بالتقنيات الحديثة في مجال التعلم .
وباستعراض الأهداف المشتقة من الاتجاهات التربوية المعاصرة يمكن القول إن أهداف التربية قد تطورت وفقا للفلسفات التربوية ونظرتها إلى الإنسان من حيث طبيعة نموه و إمكاناته و قدرته على التعلم و قد تم تحقيق إنجازات كبيرة بفضل جهود فلاسفة التربية و البحث التربوي واستخدام التكنولوجيا التربوية ، و حتى تستكمل هذه الأهداف لجميع أهداف التربية المشتقة من المنجزات التربوية الحديثة فلابد من ربط التعليم ببيئة الإنسان و حياته و تحقيق التوازن بين الخبرات المباشرة و غير المباشرة وما يقتضيه ذلك من اهتمام بالجوانب العلمية و التطبيقية و مراعاة الشمولية لجوانب الخبرة والاهتمام بالتوجيه التربوي و المهني و قيامه على أسس علمية سليمة .
شروط الأهداف التربوية :-
أوضح "ويزلي " (wesley) ، و " و رونسكي " ( wronski) أنه لابد أن يتوافر للأهداف التربوية ما يلي :
(1) أن يوافق عليها المجتمع .
(2) أن تكون قابلة للتحقيق تربويا و دراسيا .
(3) أن تعمل على تنمية قدرات المتعلمين .
مستويات الأهداف التربوية (1) :-
يمكن تصنيفها إلى 3 مستويات :




المستوى العام المستوى المتوسط
المستوى الخاص
الغايات التربوية المقاصد و المرامى التعليمية الأهداف الدراسية
Educational Aims Educational Goals Educational Obj
أهداف المستوى العام Aims :-
تتميز بما يلي :
1-شديد العمومية .
2-الشمول .
3-التجريد .
وتشتق من عدة مصادر أهمها :
1-طبيعة المجتمع و ثقافته .
2-طبيعة العصر .
3-الاتجاهات التربوية المعاصرة .
4-مطالب نمو المتعلمين .
أهداف المستوى المتوسط Goals :-
تتميز بما يلى :
1-أقل عمومية .
2-تحدد من قبل راسمي السياسات التعليمية و تتدرج في عدة مستويات فرعية
المستويات الفرعية للأهداف التربوية العامة


الأهداف العامة للنظام التعليمي .



الأهداف العامة لمراحل التعليم (رياض الأطفال- ابتدائي - متوسط - ثانوي )



الأهداف العامة للصفوف الدراسية


الأهداف العامة للمقررات و المناهج
أهداف المستوى الخاص :
و هي الأهداف الدراسية Instructional Objectives
و تمثل أهداف منظومة التدريس لمقرر دراسي أو وحدة دراسية أو درس واحد .
و تنقسم إلى ثلاث مستويات هي :
1-أهداف المقرر .
2-أهداف الوحدة الدراسية .
3-أهداف الدرس (أهداف سلوكية ) .
ب- خصائص قيم التربية الإسلامية .
مما يميز قيم التربية الإسلامية عن غيرها من القيم معرفة خصائصها والتي بمعرفتها يزداد المرء ثقة وقناعة بكونها حلا لمشاكل البشرية ووسيلة لإسعادهم في الدارين .وفيما يلي عرض لأهم تلك الخصائص:
أولا. الربانية : وهي من أعظم مزايا القيم الإسلامية على الإطلاق ، وذلك أن الوحي الإلهي هو الذي وضع أصل لها وحدد معالمها ، قال تعالى { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ، ( المانع ، 1426 ، 152 ) . والقيم الإسلامية ربانية المصدر و المنهج والغاية والهدف : - فهي ربانية المصدر : باعتبارها جزء من حيث يقول الحق عز وجل { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًىوَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } . – وهي ربانية المنهج : وفي ذلك يقول تعالى {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } . وهي كذلك ربانية الهدف والغاية : حيث بصرف التربية الإسلامية إلى غاية عظمى وهي مرضاة الله عز وجل قال تعالى{وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ( خباط ، 2004 ، 62-63 ) ويترتب على أن القيم من عند الله تعالى عدة اعتبارات منها :
1-أن القيم تتسم بالعدل : فالعدل في الإسلام مطلق وبعيد عن أهواء البشر ، قال تعالى { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}
2- أن القيم تتصف بالقدسية : تُحترم وتلتزم القيم في الإسلام لأنها تقوم على الإيمان . ( د. سامية عبدالرحمن ـــ القيم الأخلاقية ص ( 39 ).

د- ارتباط القيم بالجزاء الدنيوي والأخروي :
فالتزام شرائع الإسلام وقيمه مرتبط بالترغيب والترهيب وبالوعد والوعيد قال تعالى : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} . - ثاني السمات: الوضوح : ويدل على ذلك وصف القرآن وهو مصدرها الأول بأنه كتاب مبين ونور وهدى للناس ، وتبيان ، والفرقان والبرهان ، وما ذلك إلا لوضوحه قال تعالى { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}
ثانيا .الوسطية : وذلك بالجمع بين الشئ ومقابله ، بلا غلو ولا تفريط ، فمن ذلك التوازن بين الدنيا والآخرة ، قال تعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } . ومن ذلك الوسطية والتوسط في الإنفاق والعاطفة وتوفية مطلب الجسد والروح . قال تعالى{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَاكُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا }
ثالثاً : الواقعية : قال تعالى { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } . فالقيم الإسلامية واقعية يمكن تطبيقها لا تكليف فيها بما لا يطاق ، ولا تغرق في المثالية التي تقعد بالناس عن الامتثال ، فالعبادات واقعية ، والأخلاق واقعية ، والقيم كذلك واقعية راعت الطاقة المحدودة للناس فاعترفت بالضعف البشري وبالدافع البشري ، والحاجات المادية ،وبالحاجات النفسية . ( القرني ، 1426 ، 136 ) .ويضرب الدكتور خالد رضا الصمدي على ذلك مثالا فيقول: " فالعدل على سبيل المثال قيمة إسلامية راسخة ، ولكن تحقيقه في الواقع مدافعة للظلم بقدر الاستطاعة ، ولذلك كان رسول الله يقول : « إنما أنا بشر ، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ؛ فأحسب أنه صدق ؛ فأقضي له بذلك !فمن قضيت له بحق مسلم ؛ فإنما هي قطعة من نار ! فليأخذها أو ليتركها ! » رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب . والحب قيمة إسلامية عظمى ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العدل بين زوجاته في هذا الجانب كان يقول : « اللهم ! هذه قسمتي في ما أملك ؛ فلا تلمني فيما لا أملك » رواه الترمذي في كتاب النكاح ، يعني الميل العاطفي .
رابعاً: العالمية والإنسانية: فقيم الإسلام التي تضمنتها رسالة الأنبياء والرسل كافة وختمها محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ليست للمسلمين بخصوصهم وإنما هي منفتحة على سائر الأمم والشعوب ، ينهلون منها فتقوّم سلوكاتهم ، وتعدل من اتجاهاتهم ، فتكون هذه العالمية مدخلاً إلى الإسلام عند كثير من الأمم والشعوب والأفراد .وقد أخذ محمد صلى الله عليه وسلم بهذه القيم العالمية وجاء ليتممها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .
خامساً: قيامها على أساس الشمول والتكامل : أ- الشمول : ( فهي لم تدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية بجميع مجالاتها روحية كانت أوجسمية ،دينية أو دنيوية ، القلبية أو عاطفية ، فردية أو جماعية إلا رسمت له الطريق الأمثل للسلوك الرفيع ، فللفكر قيم ، وللاعتقاد قيم ، وللنفس قيم ، وللسلوك الظاهر قيم ) . ( وصفة الشمول جعلت القيم ذات امتداد أفقي واسع ، شمل التصور الاعتقادي والمنهج التشريعي والسلوك الاجتماعي )).( المانع ، 156 ، 157 ) ولقد أفرد ، د/ علي خليل أبو العينين ملحقاً لكتابة القيم الإسلامية والتربية وعنون له ب ( نسق القيم الإسلامية من القرآن والسنة ) ، اشتمل على: ( القيم الروحية 21 قيمة ) ( القيم الخلقية 33 قيمة ) ( القيم العلمية والمعرفية21 قيمة ) ( القيم الاجتماعية 97 قيمة ) ( القيم الوجدانية 12 قيمة ) ( القيم المادية 11 قيمة ) القيمة الجمالية 10 قيم ) . (أبو العينين ، 1408 ،207 إلى 320 ) ب- التكامل : تتمثل نظرة التربية الإسلامية في الغاية والهدف تمثلها في الوسيلة ،فالإحسان للآخرين وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه جزء مكمل للعبادة ، كما أن التفكر في ملكوت السموات والأرض وآيات الله في الكون جزء مكمل للعبادة. والتربية الإسلامية لا تقتصر على الأسلوب النظري ، بل لا بد أن يكون هناك الجانب التطبيقي ،كما أن التربية الإسلامية إضافة لاهتمامها بالفرد كوحدة واحدة فهي لا تفصله عن محيطه الاجتماعي، بل وتهتم به كجزء من المجتمع الذي يعيش فيه ، (خياط ، 1424 ، ( 77 -78 ) ،مما يرسم في نهاية المطاف لوحة بديعة التنسيق تجمع للمسلم بين خيري الدنيا والآخرة.
سادسا: الثبات والاستمرارية: وتستمد القيم الإسلامية استمراريتها من صلاحية مصادرها لكل زمان ومكان ،قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } . ومن مظاهر الاستمرار في القيم الإسلامية تكرر حدوثها في سلوكيات الناس حتى تستقر ، قال صلى الله عليه وسلم : « لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً ، رواه الإمام أحمد في مسنده . فالصدّيق لا يطلب منه أن يصدق مرة ويكذب مرات ، وإنما المطلوب أن يستمر هذا السلوك في تصرفاته طول حياته حتى يستحق هذا اللقب . يقول الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم : « ومن الخصائص الأساسية في القيمة تكرار حدوثها بصفة مستمرة ، فمن يصدق مرة أو مرات لا يوصف بأنه فاضل في سلوكه ، وإنما تتأكد القيمة وتبرز الفضيلة الخلقية في سلوك الإنسان إذا تكرر حدوثها بصورة تجعلها عادة مستحكمة أو جزءاً من النسيج العقلي والسلوكي لصاحبها وعنواناً لهويته » ( عبد الحليم 65 ،66 ، 1992م.
سابعا : الإيجابية : والمقصود بها أن يتعدى الخير للآخرين فلا يكفي كون الإنسان صالحاً في نفسه بل يكون صالحاً ومصلحاً ، يتفاعل مع المجتمع وينشر الخير ، ويعلم الجاهل ، ويرشد الضال وتأتي هذه الإيجابية للقيم من إيجابية الإسلام نفسه فهو دين إيجابي مؤثر ليس من طبيعته الانكماش والانعزال والسلبية . ( المانع ، 1425 ،160 ) ويقول الدكتور محمد جميل خياط : "فالتربية تحرك الجانب الايجابي الفطري في الإنسان ،وتهذب وتصقل الاتجاهات أو الجوانب السلبية لديه أو تحولها إلى قوة موجبة تعمل على إعمار الأرض أي أنها تعمل على غرس الأخلاق والسلوك الفاضل ( خياط ، 1424 ،ص75 .
ثامنا : التكيف والمرونة: ذلكم أن القيم الإسلامية قابلة للتحقق في المجتمع بمختلف الوسائل والطرق ،وتتكيف مع مختلف الأحوال والأزمان والأمصار دون أن يؤثر ذلك في جوهرها ،فالعدل يتحقق في المجتمع عبر مؤسسات مختلفة قد تخلقها الدولة بحسب حاجتها وعلى قدر إمكاناتها ؛ المهم أن يتحقق العدل ، وقد يتحقق في مختلف مظاهر الحياة العامة داخل الأسرة وفي الأسواق وفي المنظمات والهيئات وغير ذلك بصور شتى وبوسائل مختلفة ، والأصل في ذلك قوله تعالى { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَاقُرْبَى } ) . ولذلك لم تضع التربية الإسلامية لقيمها قوالب منظمة جاهزة لا بد أن تفرغ فيها ، وإنما أمرت بضرورة تحقق الجوهر بأشكال مختلفة تستجيب لحاجات الزمان والمكان والأحوال . فأمرت بتحقيق الشورى في المجتمع ولم تحدد الكيفية والوسيلة ، وأمرت بأداء الأمانات إلى أهلها مطلق الأمانات بعد حفظها ولم تحدد وسائل الحفظ ؛لأنها متغيرة ، وأمرت بالتكافل الاجتماعي ، وتركت طرق تحقيقه مفتوحة على اجتهادات المقدمين عليه ، وأمرت بالإنفاق في سبيل الله ؛ مطلق سبيل الله ليعم الخير كلَّ مناحي الحياة ، ويغطي حاجات الناس المتجددة . ومن مظاهر التكيف في القيم الإسلامية ؛ قابليتها للتداول بكل أنواع الخطاب من : الوعظ الإرشاد إلى الخطابة ، فالكتابة والنشر ، إلى الوسائل السمعية البصرية إلى التقنيات الحديثة للتواصل من إعلاميات وإنترنت وغيرها ، ومعلوم أن كل خطاب يحمل قيمة من القيم . والقيم لإسلامية أولى أن تحملها وسائل التواصل هذه ؛إذ ينبغي أن تحمل إلى كل أهل عصر بما ساد عندهم من وسائل ، حتى تكون قادرة على التأثير في سلوكياتهم والتعديل من اتجاهاتهم وتشكيل تصوراتهم . ومن مظاهر التكيف أيضاً قدرة هذه القيم على الاستجابة لحالة متلقيها العمرية والنفسية والوجدانية والعقلية ، فلكل أسلوبه وطريقه ومنهجه ، فالمربون الناقلون للقيم الإسلامية لهم قدرات وطاقات ، والمتعلمون لهم قدرات وطاقات أيضاً ؛ ولهذا لم يكن للنظرية التربوية الإسلامية الحاملة للقيم خطاب واحد ، وإنما يتنوع خطابها بفعل مرونته ويتكيف مع مختلف الحالات ، فما أنتجه العلماء في أدب العالم والمتعلم يختلف من سياسة الصبيان إلى سياسة الغلمان ، فسياسة من قوي عوده وعزم على طول الرحلة والطلب والتفرغ للعلم تختلف عن غيرهم وهكذا . - الكاتب: أ / عصام شريفي . - مكتب غراس للاستشارات التربوية والتعليمية .
من هذا المفهوم نقول إن التربية الإسلامية جمعت" بين تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم. فهي تعنى بالتربية الدينية والخلقية والعلمية والجسمية دون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر". وفي هذا يتضح أن التربية الإسلامية قد وازنت بين حاجات المتعلم الروحية والمادية والاجتماعية. فالفهم الإسلامي لهدف التربية هو إعداد الفرد ليكون نافعاً في مجتمعه ونفسه وسعيداً في الدنيا والآخرة . فالأهداف العامة للتربيةالإسلامية " تتصف بأمرين: الأول أنها تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع الإنساني عامة، والثاني أنها تبدأ بالدنيا وتنتهي بالآخرة بأسلوب متكامل متناسق"4" ففي الأمر الأول، الهدف، هو إعدادا لفردالمسلم فالتعليم يأخذ بيد الفرد في طريق التقدم، وفي نهاية الأمر يهيئ الفرد نفسه للحياة الاجتماعية السعيدة. الأمر الثاني، فأهدافه هي تنمية وترسيخ العقيدة الإسلامية عند الفرد المسلم وتحيقق العبودية لله تعالى وتزكية نفسه وتهذيب الأخلاق والطباع".
كذا فإن الإسلام قد وضع لنا عناصر للمناهج في المؤسسات التعليمية تمثل حجر الزاوية في العملية التعليمية. وقد تطرقت هذه العناصر لجميع التغيرات المتوقع حدوثها في كل جوانب النمو في الفرد المسلم. ونجد أن الإسلام اعتبر أن خطوة وضع الأهداف بصورة سليمة حسب متطلباته يساعد على تصميم معيار مناسب لاختيار المحتوى والخبرات وطرق التدريس ووسائله والنجاح بعد ذلك في التقويم، وبذلك يصل الفرد المسلم المتعلم إلى هدف التربية الإسلامية ألا وهو سعادته في الدنيا والآخرة.
وفي عصرنا هذا فإن " المدارس والجامعات أصبحت غير قادرة على إعداد الشباب الناشئ للحياة في عالم سريع التحول والتغير، ولذلك فإن العمل المستمر الإضافي للتربية خارج النطاق المدرسي، يجب أن يكون متواصلاً في صورة نشاطات حية على جبهة عريضة واسعة في كل الممالك والبلاد وفي كل مستويات التطور"6. فالتربية الإسلامية تمتاز عن التربية الغربية الحديثة بالهدف البعيد الذي يحفظ للفرد المسلم سمو روحه وعزة نفسه ونشاط جسمه وسلامة نموه الفكري والعلمي والعقلي.فالهدف البعيد يرنو إلى العلاقة الاحتماعية بين أفراد المجتمع وبينهم وبين الخالق سبحانه وتعالى. وبالتالي يكون الهدف هو الراعي المسلم في جميع أجزاء تكوينه الجسمي والعقلي والروحي والخلقي وبالتالي السلوكي".
جـ- الغاية من التربية الإسلامية
هي تحقيق العبودية لرب العالمين، والتي هي الحكمة من خلق الإنسان، كما قال سبحانه وتعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ، وتتعلق بها نجاته، وسعادته الأبدية، كما قال سبحانه: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ، وقال تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وجميع الأهداف تندرج تحت هذه الغاية نظراً لاتساع مفهوم العبادة في الإسلام.
نستطيع أن نضع ثلاثة أهداف رئيسية للتربية الإسلامية:
الأول: بناء الإنسان المسلم ذي الشخصية المتكاملة، وذلك بتحقيق النمو الجسمي، والعقلي، والروحي، والأخلاقي، والاجتماعي.
الثاني: التنمية العلميّة، وذلك باكتشاف المواهب والقدرات، وتنميتها، وتعليمه العلوم المناسبة له، لا سيما العلوم الشرعية، وما يميل إليه من العلوم الأخرى المفيدة للأمة.
الثالث: إخراج الأمة المسلمة؛ المتناصرة، المتناصحة، المجاهدة، الحاملة رسالة الإسلام إلى العالم.
وقد ذكر بعض الباحثين أهدافاً تفصيلية كثيرة، وهي مندرجة تحت الأهداف الثلاثة، إما خادمة للشخصية المسلمة بجوانبها المختلفة، أو خادمة للنمو العلمي، أو للأمة المسلمة(5). وتهدف التربية في النهاية إلى الكمال الإنساني، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: (الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله. إنّ التربية عملية حركية حية، تتفاعل مع المتغيرات المختلفة، وتتأثر بها وتؤثر فيها. ومن مهامها أنها تكسب النشء القدرة على التكيّف مع تلك المتغيرات مع رسوخ الثوابت الإسلامية. ومنهج التربية الإسلامية فريد في كل مناهج الأرض، وإن التقى ببعضها في التفصيلات والفروع؛ فريد في شموله ويقظته لكل دقيقة من دقائق النفس البشرية، وكل خالجة، وكل فكرة، وكل شعور، وفريد في أثره في داخل النفس، وفي واقع الحياة، فقد كان من أثره تلك الأمة العجيبة في التاريخ؛ الأمة التي انتفضت من تراب الأرض فوصلت إلى السماء، والتي قامت من شتات متناثر يكاد لا يلتقي على غير الصراع والحرب، فإذا هي أمة صلبة متماسكة لا مثيل لها في الأرض، تفتح وتغزو، وتعمّر وتبني، وتقيم مُثُلاً أخلاقية وإنسانية غير معهودة من قبل، ولا من بعد، وتنتشر في سنوات قليلة؛ في رقاع الأرض، تنشر النور والهدى، وتنشئ الحياة بإذن ربها من جديد، هذه الأمة كلها من نتاج هذا المنهج؛ كلها بمادياتها ومعنوياتها، بمشاعرها وأفكارها، وسلوكها وأعمالها، أمة فريدة في التاريخ".
البحث الثاني : تصورات التربية فى القرآن
القرآن الكريم هو دستور الحياة وكتاب نور وعلم وهداية، ومنهج شامل وبيان لكل جوانب الحياة وما يحتاجه الانسان من معرفة تحدد له أطر العلاقة بربه ونفسه ومجتمعه، وهو كتاب تربية واعداد سماوي انطلاقا من الإيمان بالله الواحد الأحد رب العالمين، فالله تعالى هو رب العالمين, وكلمة الرب مشتقة من التربية وهي تحمل معاني العناية والرعاية والإصلاح والتأديب،وعليه فان الله الخالق تعالى ذكره هو المربي والمؤدب الإنسان من خلال الإنبياء والرسالات السماوية التي تضمنت أسمى وأرفع القيم الأخلاقية التي ترتقي بالإنسان وتجعله مؤهلا لمسؤولية خلافة الله في الأرض، والى هذا يشير رسول الله (ص) بقوله: "أدبني ربي فأحسن تأديبي". ورسول الله (ص) هو المربي الأول لهذه الأمة بالقرآن، فقد أشرف على تربية جيل من الناس فكان ذلك الجيل ظاهرة فريدة عجيبة لم يشهد التاريخ لها مثيلا حتى الآن، بحيث استطاع هذا الرجل العظيم أن يعيد بناء الإنسان العربي الجاهلي ويخرجه من ظلمات التصحر الفكري والعقائدي والأخلاقي والإجتماعي الى نور الايمان والمعرفة وسمو الخلق وسماحة الذات (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) . وفي القرآن الكريم نجد أهداف التربية ومواضيعها السبعة وهي: التربية العقيدية، والتربية الخُلقية، والتربية الجسمية، والتربية العقلية، والتربية النفسية، والتربية الاجتماعية، والتربية الجنسية. وسوف نفرد بحثا مفصلا لكل موضوع من مواضيع التربية القرآنية وأهدافها ان شاء الله لاحقاوالشواهد القرآنية على أهداف التربية ومواضيعها كثيرة ولكن قبل استعراضها لا بد من الإشارة الى أمرين أساسيين:
الأمر الأول: العبادات وآثارها التربوية
الأمر الثاني: الأسلوب التربوي في القرآن الكريم
أولا : العبادات وآثارها التربوية:
مما لاشك فيه أن العبادات التي افترض الله على عباده تأديتها والتزامها لا تخلو من أهداف انطلاقا من حكمة الله المتعالية في التدبير والتشريع، وقد ننظر الى حكمة التشريع وغاياته والمصالح المرجوة منه من زوايا متعددة الا اننا قد نغفل أحيانا النظر الى الجانب التربوي الذي أراد الله تعالى تعزيزه من خلال العبادة أو التشريع، فلو أخذنا الصلاة على سبيل المثال وهي رأس العبادات وعامود الدين وقربان المؤمن ومعراج كل تقي، فقد ننظر اليها من زاوية معينة على انها عبادة يراد من خلالها التواصل مع الله واظهار الخضوع والعبودية له، ولكن لو تأملنا في حكمة هذا التشريع وأبعاده أكثر لوجدنا أن الصلاة هي عبادة تربوية بامتياز، فهي:
أولا، شكر لله تعالى على نعمه الجليلة، والشكر هو سلوك تربوي ايجابي تتبناه الفطرة السليمة ويفرضه العقل ويستحسنه العرف {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
وثانيا، تهذيب للنفس وتطويع لها على طاعة الله والابتعاد عن المعاصي والموبقات الأخلاقية {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
وهي ثالثا: سمة الصلحاء والأتقياء الموصوفين بالخلق العالي والسمعة الطيبة والأفعال الحميدة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}
وهكذا بالنسبة لعبادة ثانية وهي الصوم الذي بين الله تعالى الغاية والهدف منه بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فالصوم عبادة روحية تربوية تهذيبية ليس المراد منها صيام البطون عن الطعام -وان كان للجسد نصيبه من فوائد الصوم (صوموا تصحوا)– وإنما المطلوب صيام الجوارح عن الحرام والى هذا الهدف تشير الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم (ص) والأئمة الهداة (ع) فعن الامام الصادق (ع): "ان الصيام ليس من الطعام والشراب وحدهما فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب،وغضوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا،ولا تغتابوا،ولا تماروا، ولا تخالفوا، ولا تسابوا، ولا تشاتموا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا،ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله ".
وقد أشار النبي الكريم في خطبة استقبال شهر رمضان وفضله الى العديد من المضامين التربوية التي لا بد أن تصاحب الصوم والتي تستهدف الفرد والمجتمع على حد سواء فقد اعتبر (ص) أن عبادة الصوم لا بد أن تكون منطلقا لحسن الخلق " من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام "، ومنطلقا للإلتفات الى الناس بالمحبة والخير " وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم ". الى غير ذلك من الأبعاد التربوية التي تحفل بها عبادة الصوم.
واذا أخذنا عبادة الحج أيضا وحاولنا أن ندرس أبعادها التربوية فإننا نجد أنها تستهدف الشخصية الإنسانية وتتعاهدها بالتربية انطلاقا من كون الحج محطة للرجوع الى الله ومراجعة الذات، فالمناسك الواجبة في الحج بدءا بالإحرام فالطواف ثم السعي والرجم وغيرها تريد للإنسان المسلم أن يخرج من كل ولاء أو تبعية لغير الله تعالى وأن يطوف داعيا ملبيا نداء الفطرة نداء التوحيد، ثم تريد له أن يخرج من كبريائه وعلوه وأن يتواضع لله ثم للناس الذين تجمعه بهم وحدة الخلق ان لم نقل وحدة الدين، وتريد له هذه العبادة العظيمة أن يرجم شيطان نفسه ويتبرأ من كل الشياطين اينما وجدوا وحلوا!..{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} .
ثانيا: الأسلوب التربوي في القرآن الكريم:
نجد في القرآن الكريم الأساليب التربوية الكثيرة والمتعددة الأنماط والأشكال والتي تراعي أحوال الفئات المستهدفة وامكانياتهم وقدراتهم العلمية والإستيعابية نذكر منها:
1. التربية بالترغيب: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
2. التربية بالترهيب: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}
3. التربية بالترغيب والترهيب معا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}
4. التربية بالعقوبة الدنيوية: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
5. التربية بالعقوبة الأخروية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً}
6. التربية بالقصة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
7. التربية بالمثل: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
8. التربية بالجدل (الحوار): {وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}
9. التربية بالموعظة: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
10. التربية بالقدوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
11. التربية بالعبادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
12. التربية بالأحداث: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}
13. التربية بتدرج الأحكام: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
14. التربية بالملاحظة والنظر: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}
15. التربية بالصحبة: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}
16. التربية من خلال تغيير البيئة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}
..وغير ذلك من الوسائل التربوية.
ولا بد من الإشارة الى الأسلوب الوعظي الهادئ الذي يقدمه القرآن الكريم ويدعو الى امتثاله والأخذ به، وذلك عندما يحدثنا عن لقمان (ع) وتعاهده لولده بالوعظ والتربية{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ،وبالعودة الى الشواهد القرآنية على المنهج التربوي في القرآن الكريم نستعرض مجموعة من الآيات القرآنية ونبين الهدف التربوي منها:
1. {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}
 الهدف التربوي: الوفاء بالعهود والالتزام بالمواعيد
2. {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}
 الهدف التربوي: صلة الرحم التزاور والألفة بين الأقارب
3. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}
 الهدف التربوي: النهي عن سوء الظن والتجسس والغيبة
4. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
 الهدف التربوي: تتضمن هذه الآية هدفين تربويين الأول الاهتمام بالمظهر والنظافة البدنية الشخصية، والهدف الثاني الإعتدال في الأكل والشرب وتجنب الإسراف والتبذير
5. {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}
 الهدف التربوي: النهي عن شهادة الباطل والزور والإبتعاد عن مجالس اللغو والإثم.
6. {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}
 الهدف التربوي: بر الوالدين والإحسان اليهما وعدم الإساءة اليهما بالقول أو الفعل.
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الغنية بالفوائد والأهداف التي تريد للإنسان- شرط الأخذ بها- أن يسلك سبل الكمال في الدنيا ليصل الى مرتقى الفوز في الآخرة.
4- كا ما جاء في القرآن من تعبير ﴿ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ وما شاكلها فمعناها من عاش في عصرهم ومن جاء بعدهم، والمقصود الحاضر والمستقبل. 3- أن القيم تنال ثقة المسلم : باعتبارها مستمدة من كتاب الله فإن ذلك يؤدي إلى شعور عميق بالثقة الكاملة بتلك القيم .( د. نادية شريف العمري ، ص : 20.