25.11.09

ILMU DILALAH

الفصل السابع
العلاقات الدلالية
هناك تقسيمان رئيسيان لعلم الدلالة هما :
1- علم الدلالة المصغر Micro Semantics ، وينصب اهتمامه على البناء الدلالي للكلمات المفردة.
2- علم الدلالي الموسع Macro semantics ، وينصب اهتمامه على دراسة العلاقات الدلالية بين الكلمات، وقد سبق الحديث في الفصول السابقة في الغالب عن القسم الأول، وفي هذا الفصل سيكون الاهتمام بالقسم الثاني، ونشير بداية إلى أن مفردات اللغة تنقسم من حيث دلالتها على المعنى ثلاثة أقسام :
الأول : يدل اللفظ الواحد على المعنى الواحد ة monosemy وهذا هو الأصل.(ويطلق أولمان على الاسم حين يرتبط بمعنى واحد مصطلح المواقف الدلالية البسيطة).
الثاني : يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى، وهذا ما يسمى بالمشترك اللفظي Homonymy، ويدخل فيه الأضداد، (ويطلق أولمان على هذه الحالة المواقف الدلالية المركبة).
الثالثة : يدل اللفظان أو أكثر على معنى واحد. وهذا ما يسمى بالمترادف Synonymy.

أولا : الترادف :
(أ‌) الترادف في اللغة : مصدر (ترادف) يدل على الحدث دون الدلالة على الزمان، ويدل بصيغته الصرفية، على المفاعلة بين طرفين، (وهما اللفظان اللذان يتعاوران موقعا سياقيا ودلالة)، وهذا المصدر من مادة (ردف)، التي يدخل ضمن دلالتها، الدلالة على التبعية والخلافة ومن ذلك : "الردف – الراكب خلف الراكب...وكل ما تبع شيئا فهو ردفه... والردافة بهاء : فعل ردف الملك، كالخلافة...قال المبرد : للردافة موضعان : أحدهما، أن يردفه الملوك دوابهم في صيد، والآخر، أن يخلف الملك إذا قام عن مجلسه، فينظر في أمر الناس".
وهذا واضح في الدلالة على أنه يحل محله في أمر من الأمور، وهذه أقرب الدلالات إلى معنى الترادف، الذي يحمل دلالة المادة على الخلافة، وفيه من المجاز لعلاقة المشابهة، حيث يردف اللفظ، لفظا آخر في القيام بوظيفته الدلالية، كما يردف الواحد من الناس آخر في أداء عمله.
(ب‌) الترادف في الاصطلاح :
الترادف في اصطلاح القدماء كما يعرفه الإمام الرازي : هو الألفاظ المفردةالدالة على شيء واحد باعتبار واحد".
(ج) آراء علماء اللغة القدامى :
وقد اختلف علماء العربية القدامى في وقوع الترادف فمنهم من أثبته ومنهم من أنكره، وقال التاج السبكي في شرح المنهاج : ذهب بعض الناس إلى انكار المترادف في اللغة العربية، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات، كما في الإنسان والبشر، فإن الأول موضوع له باعتبار النسيان، أو باعتباره أنه يؤنس، والثاني باعتبار أنه بادي البشرة، وتكلف لأكثر المترادفات بمثل هذا المقال العجيب".ولعل التاج يشير بذلك إلى أبي هلال العسكري الذي ألف كتابا أسماه الفروق، وهو فيه ينكر وقوع الترادف، ومن أمثلة ما أورده في كتابه : تفريقه بين المدح والثناء بقوله : إن الثاني المدح المكرر.وبين المدح والإطراء، أن الثاني هو المدح في الوجه كما عني بذلك أحمد ابن فارس : في كتابه الصـاحبي في فقه اللغة، حيث يقول في "باب الأسماء كيف تقع على المسميات : ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة، نحو السيف والمهند والحسام، والذي نقوله في هذا : أن الاسم واحد وهو السيف وما بعده من الألقاب صفات، ومذهبنا أن كل صفة منها فمعناها غير معنى الأخرى، وقد خالف في ذلك قوم فزعموا أنها وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد، وذلك قولنا سيف وغضب وحسام، وقال آخرون : ليس منها اسم ولا صفة إلا ومعناها غير معنى الآخر، قالوا وكذلك الأفعال، نحو : مضى وذهب وانطلق وقعد وجلس ورقد ونام وهجع، قالوا : ففي قعد معنى ليس في جلس وكذلك القول فيما سواه وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد ابن يحيى ثعلب ويرد ابن فارس على حجج مثبتي الترادف، ومن خلال رده يتبين رأيه في مسألة الترادف يقول : وأما قولهم : إن المعنيين لواختلفا، لما جاز أن يعبر عن الشيء بالشيء فإنا نقول : إنما عبر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول : إن اللفظين مختلفان، فيلزم ما قالوه.وإنما نقول : إن في كل واحدة منهما معنى ليس في الأخرى".
فابن فارس يرى أن بين اللفظين مشاكلة، وأن بينهما قدرا من الدلالة يسمح بنيابة أحدهما عن الآخر في الكلام، ولكنه يؤكد على أن كل لفظ منهما يحمل دلالة خاصة ليست في الآخر.يقول : "ونحن نقول : إن في قعد معنى ليس في جلس ألا ترى أنا نقول : قام ثم قعد...ثم نقول كان مضطجعا فجلس، فيكون القعود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس، لأن الجلس : المرتفع "فالجلوس ارتفاع عما هو دونه". ومما سبق يظهر أن علماء العربية القدامى تجاه الترادف فريقان :
الأول : يثبته ويغالي في إثباته، ويتوسع فيه ومن هؤلاء ابن خالوية (ت 324) الذي حكى عن نفسه بمجلس سيف الدولة بحلب أنه يحفظ للسيف خمسين اسما وألف كتابين في الترادف أحدهما في أسماء الأسد والثاني في أسماء الحية، ومجد الدين الفيروزابادي صاحب القاموس المحيط (ت 817) الذي ألف كتابا في الترادف، أسماه "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف"، وآخر أسماه ترقيق الأسل لتصفيق العسل ذكر فيه ثمانين اسما للعسل منها : "العسل، والضرب، والضربة والضريب والشوب".
ومن هذا الفريق ابن جنى حيث عبر عن ذلك في " باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض" واستدل بذلك على وقوع الترادف فقال : "وجدت في اللغة من هذا الفن شيئا كثيرا لا يكاد يحاط به...وفيه موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنى واحد، حتى تكلف لذلك أن يوجد فرقا بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد، ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة في معنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء وهو (إلى).
الفريق الثاني : وهو يمنع الترادف ويرفضه "رفضا تاما، ومن هؤلاء أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي (ت 231هـ)، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت 291هـ) وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه (ت 330هـ)، وأبو على الفارس (ت 377هـ)".
وكان الأخير مع ابن خالوية، في مجلس سيف الدولة المذكور آنفا، ورد على ابن خالوية ساخرا فقال : ما أحفظ له (يقصد السيف) إلا اسما واحدا، وهو السيف، قال ابن خالوية : فأين المهند والصارم وكذا وكذا؟فقال أبو على : هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق بين الاسم والصفة". ومنهم ابن فارس وقد سبق ذكر رأيه، ورغم أن أبا هلال العسكري، كان من هذا الفريق الرافض للترادف المبالغ في رفضه في كتابه الفروق غير أنه "في كتابين آخرين له، ينسى هذا المبدأ ويذكر الألفاظ المترادفة، بلا اعتراض عليها، أو محاولة التفريق بينها، وأول كتابين هو : "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" وثاني الكتابين هو "المعجم في بقية الأشياء" ذكر فيه من الأسماء الدالة على بقية الماء في الحوض الجحفة..والخبطة..والدعث..والرشف..والسملة..والهلال".ويمكن القول بأن اللغويين القدماء فريقان تجاه الترادف :
الأول : يثبت وجوده ويحتج له، بأن ألفاظ اللغة يفسر بعضها بعضا ومن ذلك ، أن أهل اللغة مجمعون على أنهم إذا أرادوا أن يفسروا اللب قالوا هو العقل.
والثاني : ينكر الترادف ويثبت الفروق على نحو ما كان يفعل العسكري وابن فارس.
ويرى الدكتور أحمد مختار عمر أن " مثبتي الترادف كانوا فريقين، الأول : وسع في مفهومه، ولم يقيد حدوثه بأي قيود، والثاني كان يقيد حدوث الترادف، ويضع له شروطا تحد من كثرة وقوعه.ومن الأخيرين الرازي، الذي كان يرى قصر الترادف على ما يتطابق فيه المعنيان بدون أدنى تفاوت".والرازي برأيه هذا يتفق مع كثير من علماء اللغة المحدثين.
ويرى علي الجارم أن الفريقين كليهما قد أسرفا فيما ذهبا إليه، فالأول أسرف في إثبات الظاهرة وعد منها كل متشابهين في المعنى : "حتى كأنهم يريدون أن يزودوا مخالفيهم الحجة عليهم"والفريق الثاني أسرف في البحث عن الفروق الدلالية بين الألفاظ.
(د) الترادف عند المحدثين :
أغلب المحدثين من علماء اللغة، يجمعون على وقوع هذه الظاهرة في جميع لغات البشر، وأن كل لغة من هذه اللغات تحتوى بعض الألفاظ المترادفة، ولكنهم يضعون شروطا صارمة لقبول القول بالترادف بين كلمتين وهذه الشروط فيما يلي :
1- الاتفاق في المعنى بين الكلمتين اتفاقا تاما، على الأقل في ذهن الكثرة الغالبة، لأفراد البيئة الواحدة...فإذا تبين لنا بدليل قوي أن العربي كان حقا يفهم من كلمة جلس شيئا لا يستفيده من كلمة "قعد"قلنا حينئذ ليس بينهما ترادف".
2- الاتحاد في البيئة اللغوية بحيث تنتمي الكلمتان إلى لهجة واحدة، أو مجموعة منسجمة من اللهجات.
3- الاتحاد في العصر بحيث يكون استعمال الكلمتين في عصر واحد بمعنى واحد لافى عصرين متباينين، وتلك هي النظرة الوصفية Synchronic، ولا ينظرون إلى المترادفات نظرة تاريخية Diachronic.
4- ألا يكون أحد اللفظين تطورا صوتيا، للفظ الآخر، مثل الجثل، والجفل فأحدهما متطور عن الآخر.
"فإذا ثبت طبقت هذه الشروط على اللغة العربية، اتضح لنا أن الترادف لا يكاد يوجد في اللهجات العربية القديمة، إنما يمكن أن يلتمس في اللغة النموذية الأدبية".
ويعلل الدكتور أنيس لإنكار الترادف عند من أنكره من القدماء بأنهم كانوا من الاشتقاقين، وعلى رأسهم أبن دريد في كتابه "الاشتقاق" فهو المسئول الأول عن هذه المدرسة، وتبعه ابن فارس في مقاييس اللغة، وبأن بعضهم من الأدباء الذين يرون في الكلمات أمورا سحرية، ويتخيلون لها معاني لا يراها سراهم.ويقف هو موقفا وسطا، بين المغالين في إنكار الترادف، والمغالين في قبوله، حيث يذكر إنه إذا استبعدت المترادفات التي تحايل المثبتون على إثباتها ولم ترد في نص لغوي صحيح النسبة، وجدنا أنفسنا أمام عدد معقول من المترادفات في اللغة العربية.
ويرى الدكتور رمضان عبد التواب أنه "رغم ما يوجد بين لفظة مترادفة وأخرى، من فروق أحيانا، فإننا لا يصح أن ننكر الترادف، مع من أنكره جملة" ويعلل لرأيه يلفت النظر إلى أمر مهم في استعمال العربي لغته، ذلك الأمر هو أن "إحساس الناطقين باللغة، كان يعامل هذه الألفاظ معاملة المترادف، فنراهم يفسرون اللفظة منها بالأخرى.كما روى عن المازني أنه قال : "سمعت أبا سوار الغنوي يقرأ : "وإذا قلتم نسمة فادارأتم فيها، فقلت له : إنما هي نفس، فقال : النسمة والنفس واحد...".
ويرى على الجارم بعد أن أجرى تحليلا دلاليا لأسماء العسل، وأثبت أن معضمها من المجاز، وأن منها المقلوب مثل الشور، والشرو، ومنها المقترض مثل الدستفشار، ومنها المنسوب وغير ذلك، يرى "أن نقيس على هذه الأسماء غيرها، ونحكم بأن أكثر ما نسمع من المترادفات الكثيرة إنما جمعت على ضرب من التسامح، على أننا لا ننكر الترادف، ونرى أنه واقع فعلا، وأن وجوده في اللغات من الخير لها، ولكننا ندعو إلى التأمل والتدقيق، وعدم الإغراق في التوسيع والتضييق".
فهو يتجه مذهبا وسطا، بين المغالين في إثبات الترادف، والمغالين له وهو لا ينكر الترادف، ولا يقلبه إلا بعد بحث وتدقيق، وهو بذلك يتفق مع الدكتور أنيس والدكتور رمضان عبد التواب كما يتفق مع ترنش Trench الذي يرى أنه بالموازنة بين بعض الكلمات التي تجزم بأن بينها ترادفا، فإن معنى الترادف هنا ناقص أي لا بد من وجود فروق صغيرة جزئية بينها، قد تكون هذه الفروق مصاحبة لها في أصل الوضع، أو طارئة عليها باستعمال، أو أنها جاءت إليها من تصرف البلغاء.
"وفي هذا التعريف شيء من التساهل في شرح معنى الترادف فمن الهين أن يرى كل من له إلمام بعلم اللغة، أن إطلاق الترادف على الكلمات المتشابهة في معانيها الأساسية ليس غير، تسمية غير صحيحة، وإطلاق خال من الدقة والصواب، لأن المعنى الدقيق للترادف، يقتضى أن تتضمن الكلمات المترادفة معنى واحدا على التحديد، لا على التقريب، وأن يكون تشابه المعنى فيها كاملا، وأنها إن صح التشبيه، دوائر متحدة في المركز والمحيط".
ورغم هذا فهو لا ينكر الترادف ففي رأيه قد توجد ألفاظ بينها ترادف حقيقي، لكنه يرى أن هذه الألفاظ لا يمكن البحث عن فروق بينها لعدم وجود هذه الفروق.
فالترادف الحقيقي نادر الوقوع في رأيه، وأن أكثر ما يستخدم منه إنما يستخدم بضرب من المجاز، أي بالمعنى الشائع للترادف دون البحث والتدقيق في الفروق، وهو بذلك يتفق إلى حذ كبير مع أبي هلال العسكري في كتابه الفروق.
ويؤيد ليونز John Lyons وقوع الترادف غير التام incomplete synonymy، ويرى أنه شيء ليس نادرا أو غريبا، حيث توجد في هذا النوع من الترادف، حالة واحدة للتطابق identity، في جانب واحد من المعنى، لكن ليس في سواه، فقد تترادف الوحدات المعجمية lexemes، دون التطابق في المعنى الاجتماعي بينها، ويضرب لذلك أمثلة منها الكلمات : pap = dady=dad=father، وهو يريد بهذه الأمثلة أن يقول على الرغم من أنها تشير إلى معنى معجمي واحد، إلا أن كل واحدة تسـتأثر بدلالة اجتماعية خاصة ليست في الأخرى، ذلك أنها تدل على طبقات اجتماعية مختلفة، وهو بهذا لا يساند فكرة وقوع الترادف التام كما هو واضح من كلامه.
ويرى بلومفليد أنه "إذا اختلفت الصيغ صوتيا، وجب اختلافها في المعنى، وعلى هذا فلا ترادف عنده ويوافقه على ذلك فيرث".
وإذا كان من القدماء من ذهب إلى إنكار الترادف بناء على وجود فروق دلالية بين الألفاظ، التي يزعم أنها مترادفة فإن من المحدثين من ذهب إلى ذلك فقد لخص Collinson، الفروق التي تقع بين اللفظين اللذين يدعى ترادفهما فيما يأتي :
1- أن يكون أحدهما أعم من الآخر مثل (بكى وانتحب).
2- أن يكون أحدهما أكثر حدة أو قوة من الآخر مثل (أنهك وتعب).
3- أن يكون أحدهما مرتبطا بالانفعال أو الإثارة أكثر من الآخر مثل (أتون- موقد).
4- أن يكون أحدهما متميزا باستحسان (أدبي أواستهجان والآخر يكون محايدا مثل : تواليت- مرحاض – دورة المياه).
5- أن يكون أحدهما أكثر تخصصية من الآخر (حكم ذاتي – استقلال).
6- أن يكون أحدهما أكثر ارتباطا باللغة المكتوبة وأدبيا أكثر من الآخر مثل (تلو، بعد).
7- أن يكون أحدهما أكثر عامية أو محلية أو لهجية من الآخر مثل (لحام- جزار).
8- أن يكون أحدهما ينتمى إلى لغة الأطفال، أو إلى من يتحدث إلى الأطفال بخلاف الآخر مثل (مم – كل).
ويقدم الدكتور كمال بشر خطة لعلاج مشكلة الترادف يبدأها بذكر أسباب اختلاف العلماء، واضطراب رأيهم في الاعتراف بالترادف، وإنكاره ثم يقدم العلاج وتتمثل أسباب المشكلة عنده في سببين :
1- عدم الاتفاق بين الدراسين على المقصود بالترادف، بل إن بعضهم لم يكلف نفسه مؤنة تعريفه، أو حتى الإشارة إلى تعريف أورده غيره.
2- اختلاف وجهات النظر، أو اختلاف المناهج بين الدراسين.
ثم يثنى بتقديم علاج المشكلة وهو يتمثل في التخلص من سببيها السابقين، ويكون ذلك بتوضيحهما وبيان المقصود منهما " وهو يختار تعريف أولمان للترادف الذي يقول : "المترادفات ألفاظ متحدة المعنى، وقابلة للتبادل فيما بينها في أي سابق"وهذا علاج للسبب الأول، وعلاج السبب الثاني يتمثل في اختياره المنهج الوصفي Descriptive ويعنى به القيام بالدراسة الإحصائية الشاملة، لكل ما يدخل تحت هذا الباب، مما هو موجود في اللغة، في فترة زمنية محددة، دون النظر إلى سابقها أو لاحقها ويتطلب هذا المنهج الوصفي خطوات أساسية، لابد من الاعتماد عليها :

1- تحديد بيئة الكلام المدروس، سواء أكان لهجة معينة، أم اللغة العربية بصفة عامة.
2- تحديد الصيغة، أهي أسلوب العامة، أم أسلوب المثقفين؟
3- مراعاة سياق الحال، وهو مجموع الظروف التي تحيط بالحدث الكلامي وتلابسه.
ثم ننظر إلى الترادف على أساس ما سبق، فمن الجائز "أن تتفق كلمتان أو أكثر في المعنى، وقد لا ندرك الفرق بينهما، غير أن الفرق قد نشعر به، حين نحاول أن نستبدل الكلمات بعضها ببعض في المواقف المختلفة ومن الجائز أيضا أن يصح التبادل في أي موقف إلى نظرنا إلى الموضوع نظرة وصفية، وهنا تدخل أهمية العامل الثاني، بمعنى أنه إذا كانت الدراسة في لهجة القاهرة، ووجدنا كلمتين تحل كل منهما محل الأخرى في جميع المواقف، إلا أننا بالنظر الدقيق قد نجد إحداهما، تنتمي إلى بيئة المثقفين والأخرى إلى العامة ومن هنا فليس هذا من قبيل التبادل التام، وقد نجد كلمتين تنتميان إلى أسلوب واحد ولكن قد نجد أن إحداهما أكثر استعمالا من الأخرى ومن هنا لا يعتبر هذا من قبيل التبادل التام.
ويرى أنه إذا نحن أخضنا الترادف لهذه الدراسة الوصفية، فإنه لا يمكن أن يكون هناك ترادف أبدا، بل يمكن أن يكون ما يسمى شبه الترادف أو أنصاف الترادف على نحو ما أسماه أولمان.وإذا اختلف المنهج، بمعنى أننا لو نظرنا إلى الترادف نظرة عامة دون تحديد منهج معين فإن نتائج هذا المنهج تؤدي بنا إلى وجود هذا الترادف، وإذا خضع الترادف للدراسة دون تحديد فترة معينة من تاريخ لغتنا العربية قديما وحديثا، فإن هذا يسلمنا إلى وجود الترادف مع إمكانية إخراج بعض الأمثلة من الترادف.
ويمكن تلخيص موقف المحدثين من الترادف على النحو التالي :
1- جمهور اللغويين المحدثين على إنكار وقوع الترادف التام، ومن هؤلاء بلومفيلد، وفيرث.
2- عدد قليل منهم يسمح بوقوعه إما بتضييق شديد أو مع الشيء من التجوز أو بشروط خاصة.
ومن المضيقين أولمان، ومن المجوزين له الفريق الذي قال عنه لهرر Lehrer، هناك فريق يقول بوجود الترادف لأنه يكتفي بصحة تبادل اللفظين في معظم السياق مثل Mama، Mather، والخلاف الأسلوبي بينهما لا يمنع ترادفهما، وممن يسمح بوقوعه بشروط خاصة الدكتور إبراهيم أنيس.
ويمكن القول أن جميع اللغويين المحدثين، يقرون بوقوع الترادف غير التام أو ما يسمى بشبه الترادف.



(هـ) موقفنا من ظاهرة الترادف
وهو موقف مبني على دراسة دلالية تطبيقية، لألفاظ المعاملات المادية في القرآن الكريم، وفي هذه الدراسة 375 لفظا، مقسومة إلى اثنى عشؤ مجالا دلاليا، كل منها دراسته في فصل مستقل وقد وقع شبه الترادف في تسعة مجالات منها، ووقع الترادف في مجالين فقط وخلا منه مجال، ومن أمثلة شبه الترادف فيما يأتي :
(درهم – ورق) فقد وردا في القرآن الكريم بمعنى واحد .. إلا أن الورق أعم من لفظ الدرهم.
(السقاية – الصواع) أطلقا على مسمى واحد في القرآن الكريم غير أن الترادف بينهما غير تام.
(القسطاس – الميزان) شبه مترادفين في القرآن الكريم، والثاني أعم من الأول.
فشبه الترادف يعتبر كثيرا نسبيا، وهذا يؤيد ما ذهب إليه أولمان وفيرث والدكتور كمال بشر وما وقع من الترادف بين (بخسر وينقص) وردا مترادفين، لأنهما وردا في نفس السياق اللغوي بمعنى واحد وهو النقص، فالأول في قوله تعالى :
(ولا تخسر الميزان) في سورة الرحمن الآية 9.والثاني في قوله تعالى : (ولا تنقص المكيال والميزان)سورة هود الآية 84.وبين يأتلى ويقسم وردا في القرآن الكريم بمعنى واحد هو يخلف ولكن هذا الترادف الذي يبدو أنه تام هنا، لا يتحقق تمامه هذا إلا في مجال المعاملات المادية وهذا في القرآن الكريم فقط، فإذا خرجنا بلفظ يخسر أو ينقص عن مجال المعاملات لا ننفي الترادف بينهما، لأن كلا منهما ورد بمعان لم يرد بها الآخر في النص القرآني نفسه في مجالات أخرى غير المعاملات المادية.
وأما (يأتلى ويقسم) فرغم ورودهما في القرآن كله بمعنى واحد هو يحلف، إلا أنهما خارج القرآن الكريم نجدهما يفترقان فقد جاء يقسم بمعنى يشهد وجاء يأتلى بمعنى يقصر فتطبيق الشروط الدقيقة في دراسة دلالة الكلمات يثبت لبعضها الترادف في حدود الضيقة للغية، وفي مجال دلالي واحد، ولا يكاد الترادف التام يثبت بين كلمتين في أكثر من مجال واحد، ولذا فإني أرى أن نعبر عن هذه الظاهرة بمصطلح شبه الترادف Semi Synonymy عندما نتكلم عنها في نطاق اللغة بصفة عامة، ونعبر عنها بالترادف عندما يستخدم اللفظان في مجال دلالي واحد، وفي بيئة محددة بمعنى واحد.
ورغم هذا كله فلا مفر لنا من التسامح والتجوز في قبول مصطلح الترادف والنظر إليه دائما على أنه غير تام، فلا بد من وجوده وإن كان هذا على غير الوجه الحقيقة والتمام، وإن كان ترادفا نسبيا أو شبه الترادف، لأن تقارب الألفاظ في الدلالة على الشيء الواحد، على اختلاف نسب هذا التقارب هو الذي يعين المفسرين الشارحين والمعلمين على اختلاف تخصصاتهم على تفسير النصوص تفسيرا يكلف الفهم للمتلقين ولولا هذا الترادف المتسامح فيه ما كان هناك فهم اللغة وما تحقق الكشف عن معاني الكلمات الغامضة ولولا هذا الترادف المتسامح فيه، لأدى ذلك إلى نوع من الجمود في اللغة، (لأن انعدام الترادف يعنى انعدام التواصل اللغوي وإفقار التجربة الإبداعية لدى الإنسان).
(و) أسباب الترادف :
هناك أسباب متعددة، أدت إلى كثرة المترادفات في لغتنا العربية، وقد تنبه القدماء والمحدثون إلى أن لهذه الظاهرة أسبابا، وقد ورد عند القدماء بعض هذه الأسباب، وورد ادى المحدثين أسباب أخرى ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يأتي :
1- تعدد الأسماء للشيء الواحد باختلاف اللهجات.فقد يتحد المدلول، ويختلف الدال عليه باختلاف البيئات، ويظهر هذا بوضوح في مجال التسمية ويعود اختلاف الدال على المسمى الواحد من بيئة لأخرى إلى اختلاف الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد في كل منهما، ومن ذلك : العصا تسمى في اليمن الصميل وفي مصر تسمى النبوت، فاعتبار اليبس والخشونة، هو الذي جعل أهل اليمن يسمونها بذلك الاسم، واعتبار ما كانت عليه هو الذي جعل أهل مصر يسمونها بهذا الاسم (إذ النبوت هو الفرع النبات من الشجرة).
والولد يسمى في اليمن العصفور ولعلهم أرادوا به أحد معنيين لهذا اللفظ هما (السيد أو الملك) أو كليهما، ويسمى في الحجاز المحفوظ وكلا التسميتين على التفاؤل، وهو يختلف من بيئة إلى أخرى، وهذا الاختلاف- في حد ذاته لا يسبب الترادف على الوجه الحقيقة- ولكن الذي يسببه وأوحى لنا به، هو أن صانعي المعاجم الأوائل انشغلوا بجمع اللغة فلم يشيروا – في الأغلب الأعم- إلى البيئات المختلفة للإلفاظ، وهذا ما جعل من جاءوا بعدهم، يظنون أن كل ما جاء من هذا الباب مترادفا، وقد أشار السيوطي إلى هذا السبب حيث قال : "لوقوع الألفاظ المترادفة سببان : أحدهما : أن يكون من واضعين وهو الأكثر بأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين، والأخرى الاسم الآخر للمسمى الواحد، من غير أن تشعر إحداهما بالأخرى، ثم يشتهر الوضعان، ويخفى الواصعان، أو يلتبس وضع أحدهما بوضع الآخر...).
والناظر في اللهجات العربية الحديثة، يجد مثل هذا الاختلاف فيما يسمى فكة مثلا في مصر، تسمى في لبنان فرافير، وفي سوريا والأردن فراطة، وفي العراق خردة وفي ليبيا رقاق، وفي السعودية صرافة.
2- أن يكون للشيء الواحد –في الأصل- اسم واحد، ثم يوصف بصفات مختلفة باختلاف خصائص ذلك الشيء، ثم تستخدم هذه الصفات اسماء وينسى ما فيها من الوصفية كأسماء السيف، الصارم والصقيل والباتر... الخ.ويدخل ضمن هذا السبب ماساقة الجارم من ميل العرب إلى الكنى، وهي كثيرة في كلامهم...والشيء الواحد عندهم قد يناله كثير من الكنى يكثر إطلاقها عليه، ويشيع استعمالها فيه وتزاحم اسمه في الشهرة، حتى تصبح مرادفة له...من ذلك كنى النمر، وهي أبو الأبرد، وأبو الأسود، وأبو جهل، وأبو خطاب، وأبو رقاش...".
3- التوليد : أي توليد الألفاظ الجديدة، لمعان تحملها ألفاظ موجودة في اللغة مثل كلمة المخرقة بمعنى الكذب، والطفيلي : للواغل وهذا عن طريق الاشتقاق ، ويأتي التوليد أيضا عن طريق المجاز يشتهر بين الأدباء، فيصبح حقيقة عرفية..."، ومن ذلك ما تسميه العسل نحلا، ومجاجا، وشفاء.
4- التطور الصوتي : بالقلب والإبدال فمن القلب جبذ، وجذب، ونأى وناء ومن الإبدال، هتلت السماء وهتنت، والحثالة والحفالة لردئ الأشياء وجدث وجدف للقبر.
5- الافتراض : وهو أن تأخذ اللغة كلمات من لغات أخرى، لها في هذه اللغة نظائر في المعنى، مثل كلمة دستفشار بمعنى العسل فارسية، والاستبرق للحرير الثخين، والسندس للحرير الرقيق، كمبيوتر للحاسوب وقد ساق السيوطي عددا من الألفاظ المعربة التي ترادف ألفاظا عربية، في "فصل في المعرب الذي له اسم في لغة العرب"، ومن هذه الألفاظ : الطاجن وهو فارسي يسمى المقلي في العربية، والميزاب يسمى في العربية المثعب...والياسمين يسمى في العربية السمسق..الخ.
- وجود ألفاظ غير مقبولة الدلالة في المجتمع، يجعل المجتمع يبحث عن ألفاظ غيرها لأنها سريعة الابتذال، فيتولد عن ذلك بكثرة الاستعمال عدد من الألفاظ المترادفة على مدلول واحد، ومن ذلك الألفاظ الدالة على قضاء الحاجة وأماكنها مثل الخلاء والمرحاض ودورة المياة، والكنيف والتواليت والحمام.
7- المجازات المنسية : التي أصبحت حقيقة عرفية بطول زمان استعمالها، حتى رادفت كلمات مستخدمة بمعناها الأصلي مثل كلمة الرحمة التي رادفت الرأفة.
فوائد الترادف : ذكر السيوطي أن من فوائد الترادف ما يأتي :
1- أن تكثر الوسائل أي الطرق إلى الإخبار عما في النفس، فإنه ربما نسي أحد اللفظين أو عسر عليه النطق به".وقد جنبت المترادفات واصل بن عطاء وكان من أخطب الناس وكان ألثغا جنبته أن ينطق بالراء في خطبة له ذم فيها بشارا واستغنى بالمترادفات عن الكلمات التي فيها هذا الحرف فمدحه الشاعر بقوله :
ويجعل البرقمحا في تصرفه وجانب الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يجعله فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر
2- التوسع في سلوك طرق الفصاحة، وأساليب البلاغة في النظم والنثر ، فالمترادفات تبيح للشاعر أن يختار من الألفاظ ما يتناسب مع ما يريد من قافية ووزن، كما تبيح للناثر ما يريد أن يزين به كلامه من الجناس والسجع وغيرها من أصناف البديع كما تتيح لهما مراعاة مقتضى الحال من البلاغة باختيار اللفظ المناسب لأنه قد يصلح لفظ لمقام، ولا يصلح فيه لفظ آخر.
ثانيا : المشترك اللفظي :
هو في الاصطلاح كما حده أهل الأصول بأنه اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة".
1- آراء علماء العربية القدامى : وهم تجاه المشترك اللفظي فريقان :
أ- فريق يؤيد وقوعه.
ب- فريق ينفي وقوعه.
والفريق الأول : يمثله جمهور علماء اللغة الأقدمون يقول السيوطي : "فالأكثرون على أنه ممكن الوقوع، وحجتهم في ذلك : لجواز أن يقع إما من واضعين، بأن يضع أحدهما لفظ لمعنى ، ثم يضعه الآخر لمعنى آخر، ويشتهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادته المعنيين، وهذا على أن اللغات غير توقيفية، وإما من واضع واحد لغرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببا للمفسدة.
2- وهو واقع أيضا : "لنقل أهل اللغة ذلك في كثير من الألفاظ".
3- ومنهم من : أوجب وقوعه : لأن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية، فإذا وزع لزم الاشتراك "، أي إذا وزعت المعاني على الألفاظ كثرت المعاني عليها فلزم الاشتراك.
ومنهم من ذهب إلى أن الاشتراك أغلب، فقال : لأن الحروف بأسرها مشتركة بشهادة النحاة، والأفعال الماضية مشتركة بين الخير والدعاء والمضارع كذلك، وهو أيضا مشترك بين الحال والاستقبال، والأسماء كثير فيها الاشتراك، فإذا ضممناها إلى قسمي الحروف والأفعال كان الاشتراك أغلب".
والفريق الثاني : ويمثله عدد قليل من علماء اللغة الأقدمين وأشهرهم ابن درستويه الذي يرفض أن يكون لفظ وجد من المشترك : يقول : في شرح الفصيح، وقد ذكر اللفظة وجد واختلاف معانيها – هذه اللفظة من أقوى حجج من يزعم أن من كلام العرب ما يتفق لفظه ويختلف معناه، لأن سيبويه ذكره في أول كتابه، وجعله من الأصول المتقدمة، فظن من لم يتأمل المعاني، ولم يتحقق الحقائق أن هذا لفظ واحد قد جاء لمعان مختلفة، وإنما هذه المعاني كلها شيء واحد، وهو إصابة الشيء خيرا كان أو شرا ولكن فرقوا بين المصادر لأن المفعولات كانت مختلفة فجعل الفرق في المصادر بأنها أيضا مفعولة، والمصادر كثيرة التصاريف جدا، وأمثلتها كثيرة مختلفة، وقياسها غامض."
فجعل علة تفريقهم بين المعاني اللفظ الواحد، راجعة إلى تفريقهم بين المصادر (وجد) بناء على تفريقهم بين المفاعيل حسب اختلاف المقامات وسياقات الكلام ومن أمثلة ذلك وجدت الضالة من الوجود، ووجدت عليه من الموجدة...الخ.
وقد فطن ابن درستويه إلى بعض أسباب وقوع المشترك اللفظي في اللغة وفطن مع ذلك إلى مجىء اللفظ من لغتين مختلفين بمعنيين مختلفين، أو التعبير في بناء الكلمة، نتيجة التطور الصوتي : فهو يقول : "وإنما يجىء ذلك في لغتين متباينتين، أو الحذف واختصار وقع في الكلام حتى اشتبه اللفظان.
2- آراء المحدثين من علماء اللغة :
يرى الدكتور إبراهيم أنيس : "أن الكلام الفريقين قد أسرف فيما ذهب إليه، وبعد عن جادة الصواب في بحثه، إذ لا معنى لإنكار المشترك اللفظي مع ما روى لنا في الأساليب العربية الصحيحة من أمثلة كثيرة، لا يتطرق إليها الشك، كذلك لا معنى للمغالاة في رواية أمثلة له مع ما في هذا من التعسف والتكلف.."ثم يقول : "وليس الأمر من البساطة بالقدر الذي تصوره القدماء من علماء اللغة، إذ وقع المشترك في كل لغة، وقد دعت عوامل متعددة لوقوعه، فكما تطور أصوات الكلمات وتتغير، قد تتطور معانيها وتتغير مع اختفاظها بأصواتها، وتطور المعاني وتغيرها مع الاختفاظ بالأصوات، هو الذي ينتج لنا كلمات اشتركت في الصورة واختلفت في المعنى".
والدكتور أنيس بعبارته هذه يؤيد ابن درستويه في إرجاعه ظاهرة الاشتراك اللفظي، إلى عوامل التطور المعنوي، بل إنه يصرح بهذا التأييد، فيقول : وقد كان ابن درستويه محقا حين أنكر معظم تلك الألفاظ، التي عدت من المشترك اللفظي، واعتبرها من المجاز، فكلمة الهلال حين تعتبر عن هلال السماء، وعن حديدة الصيد التي تشبه في شكلها الهلال، وعن هلال النعل الذي يشبه في شكله الهلال، لا يصح إذن أن تعد من المشترك اللفظي لأن المعنى واحد في كل هذا، ولقد لعب المجاز دوره، في كل هذه الاستعمالات".والمشترك اللفظي الحقيقي في رأيه : إنما يكون حين لا نلمح أي صلة بين المعنيين كأن يقال لنا : إن الأرض هي الكرة الأرضية وهي أيضا الزكام".على حين كان رأي القدماء عدم التفرقة بين ما يلمح الصلة فيه بين المعنيين وغيره، والمحدثون من علماء اللغة يعترفون بوقوع المشترك اللفظي، وإنه لا يقتصر وجوده على اللغة العربية بل هو موجود في جميع اللغات.والمشترك اللفظي على أنواع أربعة عندهم :
1- وجود معنى مركزي للفظ تدور حوله عدة معاني فرعية أو هامشية.
2- تعدد المعنى نتيجة لاستعمال اللفظ في مواقف مختلفة.
3- دلالة الكلمة الواحدة على أكثر من معنى نتيجة لتطور في جانب المعنى.
4- وجود كلمتين تدل كل منهما على معنى، وقد اتحدت صورة الكلمتين نتيجة تطور في جانب النطق.
ويذهب المحدثون من علماء اللغة مذهب ابن درستويه في التعليل لوقوع ظاهرة الاشتراك اللفظي، غير أنهم توسعوا في التعليل لها وإيضاح أسبابها وهذه الأسباب هي :
1- المجاز : مثل استخدام العين للدلالة على عضو الإبصار، والحسد والجاسوس...الخ.ومثل استخدام كلمة التقاوي بمعنى البذور، لأنها كانت في أصلها تقوية أي إعانة من السلطان للفلاح، تمثلت في البذور فأطلقت عليها.
2- سوء فهم المعنى وخاصة عند الأطفال.
3- الاقتراض : من اللغات الأخرى مع اتفاق اللفظين في الصورة الصوتية، ومثال ما وافق فيه اللفظ المعرب اللفظ العربي : كلمة زور بمعنى الاختلاط فارسية، بمعنى القول الباطل في العربية، وكلمة الشفرة بمعنى ما حدد من الحديد كحد السيف والسكين عربية، ومعربة بمعنى : "رموز يستعملها فريق من الناس للتفاهم السري فيما بينهم معربة".وكلمة الكور عربية بمعنى الرحل بأداته، ومعربة بمعنى ما يبنى من الطين يستخدمه الحداد في صناعته.
4- اختلاف اللهجات : فالألفت عند تميم هو الأعسر، وعند قيس هو الأحمق، ثم استعمل هؤلاء لغة هؤلاء.
5- التطور اللغوي : هو التطور الصوتي بالقلب والإبدال فمن الإبدال : كلمة الفروة بمعنى جلدة الرأس والغنى، لكن المعنى الثاني هو لكلمة الثروة، وقد أبدلت الثاء فاء " فتطابقت مع الكلمة الأولى في صورتها الصوتية فحملت المعنيين جميعا.
ومن القلب المكاني : نأى وناء : ناء بصدره : إذا نهض وناء : إذا بعد كنأى.
والذي حدث أن الذي بمعنى بعد هو الأول وأن الذي بمعنى نهض هو الثاني، فلما قلب الأول إلى ناء تطابقت صورته مع الثاني فحمل المعنيين جميعا، وهناك قراءة قرآنية في قوله تعالى : أعرض وناء بجانبه).بمعنى (أعرض ونأى بجانبه).سورة الإسراء : الآية 83 وسورة الفصلت، الآية : 51.

7- أو من اشتراك مفردين مختلفي المعنى في صيغة جمع واحد، تمثل صورة صوتية واحدة، مثل كلمة جزر ، فهي تعنى الجزر من الإبل، لأنها جمع حزور، وتعنى أيضا القطعة من الأرض، تحاط بالمياه من كل جانب، لأنها جمع جزيرة، فإذا أطلقت كلمة الجزر.ذهب الذهن إلى المعنيين، الإبل، وجزر الأرض.
ويشير ليتش إلى هذه الظاهرة بمصطلح Homonymy ويعرفه بأنه عبارة عن كلمتين أو أكثر تنطق بطريقة واحدة، لأو بهجاء واحد ويفرق بينه وبين مصطلح آخر هو polysemy ويريد به الكلمة الواحدة تحمل معنين أو أكثر.
ويعبر أولمان عن هذه الظاهرة بالمعادلة الآتية :
لفظ واحد = مدلولات عدة، ويفرق أيضا كما رأينا ليتش – بين ضربين من الألفاظ يقعان تحت هذه الظاهرة فيقول : "هذان النوعان من الكلمات يجب أن نفرق بينهما، إذا كان لنا أن نحصل على صورة أمينة لما يجري بالعفل في ذهن المتكلم، وإنه لمن الطبيعي أن يكون المتكلم هو الحكم الوحيد في هذا الشأن، فإذا كانت البيئة اللغوية الخاصة تشعر بأن اللفظين ينتميان إلى كلمتين مختلفين، وجب علينا حينئذ أن نعدهما من باب المشترك اللفظي Homonymy، أما إذا كانت الألفاظ تمثل كلمة واحدة فهي ليست من هذا الباب".
إنه يفرق بين مصطلحين الأول هو المشترك اللفظي Homonymy ، ويعنى به تلك الكلمات، التي اتفقت صورتها على نحو ما مثلنا في العربية بالقلب والإبدال، ويعبر عن هذه المصطلح بعبارته "كلمات عدة متحدة الصيغة" ويرجع وجود المشترك اللفظي إلى مصدرين مختلفين أكثرهما وقوعا اتفاق كلمتين مستقلين أو أكثر في الصيغة اتفاقا بطريق الصدفة، ويمثل لها بالصيغة Sound التي تعد تطورا لأربع كلمات منها كلمة Sound الألمانية بمعنى صحيح البدن، وsound بمعنى سبر الغرور وهي امتداد للفعل الفرنسي Sonder.

ويمثل لهذا النوع من الاستعمال المجازي بكلمة Crane وهو لسم طائر الكركي، حيث أطلق هذا الاسم على مدلول جديد، وهو الدلالة على آلة تستعمل في رفع الأحمال الثقيلة وهو استعمال قائم على النقل الدلالي لعلاقة المشابهة بين المدلولين القديم والجديد، حيث يعيش المعنيان جنبا إلى جنب مما يسبب تعدد المعنى للفظ واحد، وهكذا يفرق المحدثون من اللغويين بين هذين المصطلحين عند التعرض لدراسة هذه الظاهرة (الظاهرة الاشتراك اللفظي).
والمشترك اللفظي في نظره محدود الوقوع والحدوث ولكن بصزرة أكثر مما يظن الناس عادة، وهو تطور غير طبيعي في اللغة.
أما تعدد المعنى فهو كثير الوقوع فقدرة " الكلمة الواحدة على التعبير عن مدلولات متعددة إنما هي خاصة من الخواص الأساسية للكلام الإنساني، ويتميز التغير الدلالي عن التغيرات اللغوية الأخرى الصوتية والصرفية والنحوية، بأن المدلولات القديمة تعيش جنبا إلى جنب المدلولات الجديدة، على عكس التغيرات الأخرى التي تطرح فيها المرحلة السابقة وتحل محلها المرحلة الجديدة.
ومهما كان الأمر من وقوع المشترك في اللغة العربية وغيرها فإنه لا وجود له في واقع الأمر إلا في معجم لغة من اللغات، أما في نصوص هذه اللغة واستعملاتها فلا وجود إلا لمعنى، من معاني هذا المشترك إذ السياق هو الكفيل بتحديد معنى واحد من معاني الكلمة، حيث لا تستخدم الكلمة بأكثر من معنى في السياق الواحد إلا على ضرب من الاحتمال.
ثالثا : الأضداد :
والضد في اللغة هو النظير والكفء زالجمع أضداد، وقال أبو عمر : الضد مثل الشيء والضد خلافه، وضاده إذا باينه مخالفة، والمتضادان اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار".
ويتبين من ذلك أن كلمة الضد كلمة استخدمت في اللغة مشتركا لفظيا، إذ دلت على معان متعددة، وهي كذلك شبه ضد، لأنها استخدمت في الدلالة على الشيء ومخالفه ومباينه.
والضد في الاصطلاح : ينطق عليه التعريف الاصطلاحي للمشترك اللففظي غير أنه يختص باللفظ الدال على معنين متضادين، مثل الجون للدلالة على الأبيض والأسود، والقرء للطهر والحيض فهو فهو أخص من لفظ المشترك اللفظي، (وليس يدخل في هذا الاصطلاح، تلك الألفاظ المتضاد Antonymous، التي يعنى بها المحدثون اللفظين يحتلفان نطقا ويتضادان معنى مثل أسود وأبيض وقصير وطويل).
وهذه الظاهرة – ظاهرة دلالة اللفظ الواحد على معنين متضادين- ظاهرة موجودة في جميع اللغات، ولكنها لم تحظ باهتمام المحدثين من اللغويين الأروبيين، بقد ما حظيت باهتمام اللغويين العرب القدماء، حيث أفرد بعضهم لها مؤلفا مستقلا كابن الأنباري (328)، والأصمعي (216) وأبو حاتم (255) وابن السكيت (244) والصاغاني (650) وأبو الطيب (351) ومن الكتب التي لم تصل إلينا في الأضداد، كتاب الأضداد للتوزي (230) ولابن فارس كتاب في الأضداد أشار إليه في كتابه الصاحبي.

منكرو الأضداد : من الذين أنكروا الأضداد :
1- ثعلب (291) الذي قال : ليس في كلام العرب ضد لأنه لو كان فيه ضد لكان الكلام محالا، ولذلك وجدناه في كتاب مجاز الكلام وتصاريفه يعلل لوقوع الأضداد فيقول : من الأضداد مفازة مفعلة من فوز الرجل إذا مات، ومفازة من الفوز على جنس التفاؤل وكالسليم".
2- وابن درستويه الذي أنكر وقوع المشترك اللفظي من قبل ينكر وقوع الأضداد باعتبارها نوع من هذا المشتركن وقد ألف كتابا في إبطال الأضداد وهو يرد قول المثبتين للأضداد حيث يقول : " النوء الارتفاع بمشقة وثقلن منه قليل للكوكب قد ناء إذا طلع وزعم قوم من اللغويين أن النوء السقوط أيضا، وأنه من الأضداد وقد أوضحنا الحجة عليهم في ذلك في كتابنا في إبطال الأضداد".
3- القالي : حيث يعلل لوقوع الأضداد أيضا فيقول في الأمالي : "الصريم : الصبح سمي ذلك لأنه انصرم عن الليل، والصريم الليل، لأنه انصرم عن النهار وليس هو عندنا ضدا.
4- ابن دريد : حيث قال في الجمهرة : الشعب الافتراق والشعب الاجتماع، وليس من الأضداد، وإنما هي لغة لقوم، فأفاد بهذا أن شرط الأضداد أن يكون استعمال اللفظ في المعنين في لغة واحد.
5- الجر اليقي : الذي نسب إنكار الأضداد إلى المحققين من العلماء.
6- أحد الشيوخ أبي على الفارسي : فقد روى ابن سيده الأندلوسي أنه كان ينكر الأضداد التي حكاها أهل اللغة وأن تكون لفظة واحدة لشيء ضده".
وغالب الذين ينكرون الأضداد يعللون لوقوعها فهم لا يقبلونها دون الرجوع إلى أصلها، فإذا عادوا إلى أصلها لم يجدوها من الأضداد على وجه الحقيقة ومن تعليلاتهم لإنكار الأضداد في الأصل ما يأتي :
1- إذا وقع الحرف على معنين متضادين، فالأصل بمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع فمن ذلك الصريم يقال لليل صريم وللنهار صريم لأن الليل ينصرم من النهار والنهار ينصرم من الليل فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع.
2- كما رجعوا ذلك إلى اختلاف اللهجات : فإذا وقع الحرف على معنيين متضادين فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحى من العرب، والمعنى الآخر لحى غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء...فالجون الأبيض في لغة حي من العرب والجون الأسود في لغة حي آخر، ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر.ومن التعليلات العقلية التي ساقاها هذا الفريق : ما قاله صاحب الحاصل تاج الدين الأرموي محمد بن الحسين (653) : "إن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد لأن المشترك فيه إفادة التردد بين معنييه، والتردد في النقيضين حاصل بالذات لا من اللفظ".وعلى الرغم مما نجد من القالي وابن دريد وثعلب من إنكار الأضداد، غير أنهم يعترفون بوقوعهما في كلام العرب حيث يسجلون في كتبهم هذا الاعتراف فهذا أبو على يسجل في الأمالي : "الجادي : السائل والمعطي وهو من الأضداد".وهذا ابن دريد يسجل في الجمهرة : "البك :التفريق، والبك : الازدحام، كأنه من الأضداد"، وهذا ثعلب يقول : "من الأضداد مفازة .."
وإن علل لها إلا أنه يعترف بوقوع الأضداد بأسباب، وهذا التفريق يعتبر من المضيقين لهذه الظاهرة أن من الذين قبلوها بشروط، وهم في ذلك يتفقون مع المحدثين من اللغويين الذين يعللون للظاهرة.
مؤيدو وقوع الأضداد :
يمثل هذا الفريق جمهور العلماء اللغة من القدماء والمحدثين، وعلى رأسهم أبو بكر بن الأنباري الذي يبدو أن الدافع من تأليفه كتابه الأضداد ، هو الدافع عن العربية ضد الشعوبيين، الذين وجدوا في الأضداد ثغرة للهجوم على العربية وأهلها فهو يقول : "ويظن أهل البدع والزيغ والازدراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنقصان حكمتهم، وقلة بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند اتصال مخاطباتهم، لكن هجومهم هذا مبني على وهم منهم لأن كلام العرب يصحح بعضه بعضا ويرتبط أوله بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه، فجاز وقوع اللفظة الواحدة على المعنيين المتضادين، لأنها تتقدمها ويأتي بعدها ما يدل على خصوصية أحد المعنيين دون الآخر، فلا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد ومن ذلك قول الشاعر :
كل شيء ما خلا الموت جلل والفتى يسعى ويلهيه الأمل
واب الأنباري بذلك القول، يستند إلى عماد رصين في تحديد المعنى وهو السياق، والحق أن السياق هو الكفيل بهذه الوظيفة الدلالية، ومعلوم أن ليس هناك كلمة تستعمل بعيدا عن سياق، سواء أكان سياقا لغويا أم سياق حال، وعلى ذلك تنتفي هذه الشبهة من لغة العرب.
ومن المثبين لهذه الظاهرة ابن فارس (ت395هـ) حيث يقول : "ومن سنن العرب في الأسماء أن يسموا المتضادين باسم واحد ، نحو الجون للأسود والجون للأبيض، وأنكر ناس هذا المذهب، وأن العرب تأتي باسم واحد لشيء وضده، وهذا ليس بشيء وذلك أن الذين رووا أن العرب تسمى السيف مهندا والفرس طرفا، هم الذين رووا أن العرب تسمى المتضادين باسم واحد، وقد جردنا في هذا كتابا ذكرنا فيه ما احتجوا به، وذكرنا رد ذلك ونقضه".
وقد انضم معظم علماء الأصول إلى جمهرة اللغويين في إثبات هذه الظاهرة ويقسم الدكتور أحمد مختار عمر علماء اللغة من حيث موقفهم من الأضداد إلى أربعة طوائف حيث يقول : " يتفاوت المثبتون للأضداد في توسيع مفهوم اللفظ (يقصد لفظ الأضداد) وتضييقه، ومن الموسعين من بالغ في التوسيع، كما أن من المضيقين من بالغ في التضييق"، وهذه الطوائف الأربعة هي :
1- الموسعون.
2- المضيقون.
3- المبالغون في التوسيع.
4- المبالغون في التضييق.
أما الطائفة الأولى : فيدخلون في الأضداد ما كان ناتجا عن اختلاف اللهجات ومنهم ابن السكيت الذي روى لمقت الكتاب بمعنى كتبته بمعنى كتبته ومسحوته، مع أنه ينص على أن الأولى لغة لعقيل والثانية لسائر العرب، وفعل مثل ذلك الفارابي الغوي وابن الأنباري وأبو الطيب اللغوي.
أما الطائفة الثانية : فلا يجعلون النوع السابق من الأضداد، ومنهم ابن دريد، الذي اشترط أن يكون اللفظ الضد من لغة واحدة، ومنهم أبو على القالي الذي أخرج من الأضداد ما يعود إلى معنى عام واحد كما رأينا في كلمة الصريم. للصبح والليل، ومنهم من أخرج من الأضداد الألفاظ التي جاءت أضداد بسبب دلالة الصيغة الصرفية الواحدة على معنى وضده، مثل المبتاع بمعى المشترى، والشيء الذي يشتري.
وأما الطائفة الثالثة : فهم كثيرون ومنهم أبو حاتم وقطرب وابن الأنباري فأدخلوا في الأضداد ما أخرجته الطائفة الثانية، ويزيدون على ذلك، فابن الأنباري يجعل " ما" من الأضداد لأنها تدل على النفي كما تستخدم موصلة ونحن لأنها تستخدم للمثنى وللجمع.مما جعل الدكتور إبراهيم أنيس يرميه بالتكلف والتعسف لأنه أورد أمثلة في الأضداد وليست منه في شيء مثل كلمة الإسرار بمعنى الإظهار.
وأما الطائفة الرابعة : وهم المبالغون في التضييق فمعظمهم من المحدثين وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم أنيس الذي علل لأسباب وقوع هذه الظاهرة وينتهي إلى القول بأنه : " حين نحلل أمثلة التضاد في اللغة العربية ونستعرضها جميعا، ثم نحذف منها ما يدل على التكلف والتعسف في اختيارها، يتضح لنا أن ليس بينها ما يفيد التضاد بمعناه العلمي الدقيق إلا نحو عشرين كلمة في كل اللغة.وأن مصير كلمات التضاد إلى الانقراض من اللغة، وذلك بأن تشتهر بمعنى واحد من المعنيين مع مرور الزمن".
ومن هؤلاء الدكتور رمضان عبد التواب حيث يقول : "غير أننا لا نود أن ننساق وراء المؤلفين في الأضداد من اللغويين العرب فعند كل ما أتوا به من كلمات هذه الظاهرة صحيحا"، ثم يسوق في أمثلة يخرجها من باب الأضداد وبتحليل هذه الأمثلة نجدها تعود إلى :
أ) المشترك اللفظي، كاستخدام كلمة المثل بمعنى المماثل والضعف.
ب) المجاز، كاستخدام الظعينة للهودج والمرأة.
ج) اختلاف اللهجات، كاستخدام المعصر للجارية التي دنت من الحيض عند قيس والتي ولدت أو تعنست عند الأزد، وهذه الأمثلة كلها عن ابن الأنباري، مما يثبت مبالغة ابن الأنباري في التوسع في إثبات الأضداد وإدخاله فيها ما ليس منها، ثم يعقب على هذه الأمثلة وغيرها بقوله : "ومثل ذلك كثير في كتب الأضداد وبعضه في الحقيقة من باب : المشترك اللفظي، لا من باب الأضداد".كما أنه يشترط في الكلمة الضد أن تكون كلمة واحدة بمتعلقاتها في المعنيين، من دون أن يطرأ عليها أي تغيير ويخرج من الأضداد ما يلي :
أ) اللفظ الذي ترك اللغويين العرب الاستشهاد على أحد معنييه.
ب) الألفاظ التي صحفها اللغويون أو حرفوها مثل كلمة برد بمعناها وبمعنى سخن.واستشهادهم بالبيت :
عافت الشرب في الشتاء فقلنا برديه تصاد فيه سخينا
وهو تحريف لعبارة بل رديه، وما حدث هو إدغام اللام في الراء، وليس من الصواب أخذ هذا الكم الكبير من الألفاظ ، وإدراجه تحت الأضداد كما ذهب المسرفين من مؤيدي هذه الظاهرة، ولكن يجب أن نخضع هذه الألفاظ للبحث العلمي، وللدرس اللغوي بحيث ترجع المعانى المتضادة إلى أصولها الكلية، أو إلى العلاقات المجازية، ويخرج من الظاهرة أيضا ما يعود إلى اختلاف اللهجات، وما يعود إلى احتمال الصيغة الصرفية فيه للمعنى وضده، وما يعود إلى التطور الصوتي، وهذا ما ذهب إليه علماء اللغة المحدثين، حيث أرجعوا كثرة الأضداد في العربية إلى أسبابها التي ستأتي، ولست مع من توسع في هذه الظاهرة أو بالغ فيها، ولست مع من بالغ في تضييقها، وأرى أن ألفاظ الأضداد في العربية بعد إخضاعها للدراسة العلمية، سيبقى منها عدد ليس بالقليل النادر، وأرى أن حكم المبالغين بأنه لن يبقى من الأضداد في العربية بمعنى العلمي الدقيق، لهذه الكلمة سوى عشرين كلمة، حكم فيه تجوز وتسرع يقول الدكتور أحمد مختار عمر، حتى لو اعتدلنا في تفسير مفهوم التضاد وأسقطنا بعض الأمثلة التي لا تعد منه يظل عندنا قدر كبير من ألفاظ الأضداد تتجاوز بكثير ما توقف عنده بعضهم وهو عشرون لفظا.
أسباب هذه الظاهرة :
تحدث علماء اللغة المحدثون، عن أسباب هذه الظاهرة ومنهم الدكتور إبراهيم أنيس والدكتور رمضان عبد التواب، والكتور أحمد مختار عمر، وهم يتفقون جميعا على عدة أسباب ووجدت الأخير قد ذكر الأسباب التي ذكرها السابقان وزاد عليها بحيث بدت أكثر شمولا، وإن اتفقوا جميعا في غالب هذه الأسباب، وقد قسم الدكتور مختار هذه الأسباب إلى ثلاثة أقسام :
أ‌) أسباب خارجية
ب‌) أسباب داخلية
ج) أسبا تاريخية
أولا : أسباب خارجية :
1- اختلاف اللهجات : مثل السدفة بمعنى الظلمة عند تميم وبمعنى الضوء في لغة قيس.
2- الاقتراض من لغة أجنبية : مثل كلمة جلل فهو عند جيسي Giese أن العربية أخذتها من العبرية، وهي فيها بمعنى دحرج، والشيء المدحرج يكون ثقيلا إحيانا وخفيفا أحيانا أخرى، فقد اعتمدت العربية على هذين الإيحائين المتضادين وأعطتهما معنيين متضادين هما عظيم وحقير، يؤيد ذلك ما ذكره ربحي كمال من أن معنى الكلمة في العربية الكتلة الصغيرة، والحجر الكبير الثقيل.
3- أسباب اجتماعية :
أ) التفاؤل : إطلاق اسم المفازة على الصحراء وهي مهلكة، والسليم على اللديغ.
ب) التشاؤم حيث يطلقون على الأسود أبيض وفي بعض البلدان العربية يسمون الفحم البياض.
ج) التهجم : مثل كلمة التعزيز فأصل معناها في العربية التعظيم، ومن ذلك قوله تعالى : (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) سورة الفتح، الآية : 9.وقد استعملت بمعنى التأديب والتعنيف واللوم، تهكما بالمذنب واستهزاء به.
د) التأدب : مثل إطلاق كلمة البصر على الأعمى.
هـ) الخوف من الحسد : ومن ذلك إطلاق العرب كلمة الشوهاء على المهرة الجميلة وعلى القبيحة.
ثانيا : أسباب داخلية :
وهي تلك الأسباب النابعة من داخل اللغة وهي ثلاثة أقسام، أسباب ترتبط بالمعنى، وأخرى ترتبط باللفظ، وترتبط بالصيغة.
1- أسباب ترتبط بالمعنى، وهي :
أ‌) الاتساع : كإطلاق الصارخ على المغيث والمستغيث.
ب‌) المجاز : مثل إطلاق اسم الفاعل على المفعول وهذا الشائع في اللغات السامية، ومن ذلك قوله تعالى : "عيشة راضية" سورة الحاقة الآية 21.أي مرضية وقولهم تطليقة بائنة، والمعنى مبانة.
ج) عموم المعنى الأصلي : مثل كلمة الطرب التي تطلق على الفرج والحزن وأصل المعنى خفة تصيب الرجل، لشدة السرور أو لشدة الجزع.وكلمة الجون تطلق على الأبيض والأسود وهي في الأصل لمطلق اللون في العربية والعبرية والسريانية والفارسية.
د) تداعى المعاني المتضادة والتصاحب الذهني : لأن الضدية نوع من العلاقة بين المعاني، بل ربما كانت أقرب إلى الذهن من أية علاقة أخرى فمجرد ذكر معنى من المعاني يدعو ضد هذا المعنى إلى الذهن ومن ذلك كلمة البين تطلق على الوصل وعلى الفرقة لأن المعنى الأول يستدعى ضده الثاني.
هـ) زيادة القوة التعبيرية : إذا أراد المتحدث المبالغة في التعبير عن الشيء عبر عنه بضد معناه، ومن ذلك أن أحد خلفاء العرب في الأندلس سمي أحد جواريه بالقبيحة لشدة حسنها وجمالها.
2- أساب ترتبط باللفظ :
أ‌) اختلاف الأصل الاشتقاقي لكل من المعنيين المتضادين ومن ذلك : ضاع بمعنى اختفى وظهر، فالمعنى الأول من ضاع يضيع ضياعا، والثاني من ضاع يضوع، فالألف في الأول منقلبة عن الياء والثاني عن الواو، فاختلف المعنى لاختلاف الأصل الاشقاقي.
ب‌) الإبدال : ومن ذلك كلمة أسر بمعنى أظهر وكتم وأصل معنى الإظهار في كلمة أشر، فإبدال الشين سينا جعل الصورتين الصورتين للكلمتين، صورة واحدة تحمل المعنيين المتضادين ومثله كلمة لمق.وقد سبق ذكرها.
ج) القلب المكاني : مثل كلمة صار بمعنى جمع وبمعنى قطع وفرق ومنه قوله تعالى : "                         "سورة البقرة :260. بمعنى اجمعهن وضمهن، ومنهم من فسرها بمعنى قطعهن واجمعهن"، قال الفراء : لا تعرف صار بمعنى قطع إلا أن يكون الأصل فيه صرى، فقدمت اللام موضع العين كما قالوا عاث وعثا".
3- أسباب ترتبط بالصيغة :
أ) دلالة الصيغة على السلب والإيجاب ومن ذلك : دلالة فعل وأفعل....
وقد عبر ابن فارس عن هذه الأقسام الثلاثة فقال : ما يسمى الشيئان المختلفان بالاسمين المختلفين، وذلك أكثر الكلام، كرجل وفرس، وتسمى الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد، نحو عين الماء وعين المال، وعين السحاب ويسمى الشيء الواحد بالأسماء المختلفة نحو السيف والمهند والحسام".وليست هناك مشكلة فيما يتعلق بالقسم الأول لأنه يجري على الأصل في أن كل اللفظ له معى واحد، وعلى أكثر كلمات اللغة، أما القسم الثاني وهو المشترك اللفظي بنوعيه، والمترادف في مثلان مشكلة دلالية، حظيت بعناية اللغويين القدماء والمحدثين، وسوف أفصل عنهما الحديث فيما يأتي بادئا بالترادف ومثنيا بالمشترك بنوعيه. 6- ومن أسباب الاشتراك اللفظي، اتحاد كلمتين في النطق، مع اتيانها من طريقين مختلفين من الاشتقاق مثل كلمة تجزأ، فهي بمعنى صار أجزأ لأنها جمع جزء وبمعنى اكتفى لأنها من أجزأ بمعنى كفى، والفعل أسرج بمعنى عمل سرجا، وبمعنى أوقد السراج.فالأول مشتق من السرج والثاني مشتق من السراج.والفعل باع بمعنى ضد اشترى وبمعنى قاس الشيء بالباع كما تقول باع الرجل الحبل، قاسه بالباع من باع يبوع بوعا. الثاني تعدد المعنى ويستخدمه الدلالة على الحالات التي تستعد فيها مدلولات الكلمة الواحدة على نحو مامثلنا في العربية لتعدد الدلالة عن طريق المجاز ويعبر عنه بعبارة مدلولات عدة للكلمة الواحدة.